في كفه شعلة تهدي وفي دمه ... عقيدة تتحدى كل جبار
من همته - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يقول عن الوسيلة التي نطلبها له - صلى الله عليه وسلم - في دعائنا بأنها درجة في الجنة لا تكون إلا لواحد، وأرجو أن أكون أنا.
وهو بأبي وأمي صاحب المقام المحمود، وهو أعظم مقام في تاريخ الإنسان، إذا جمع الله الأولين والآخرين، لا يتكلم أحد من ملوك الدنيا، ولا الملائكة، ولا الرسل، ولا الشهداء.
فيسجد - صلى الله عليه وسلم - تحت العرش، فيقول - سبحانه -: " ارفع رأسك، وسل تعط، واشفع تشفع ". (4) حينها يطلب نجاة أمته، ويطلب من الله فصل القضاء - صلى الله عليه وسلم -.
والرسول - صلى الله عليه وسلم - طموحه يتجاوز الدهر، ويخترق الصوت، يشعب في شعاب التاريخ.
هو في المدينة يسكن في بيت طين، ويقول: " رأيت البارحة أن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها، وأن ملك أمتي يبلغ ما زوي لي منها ". (5)
نعم ... لقد بلغ ملك أمته حدود الصين في هضبة التيبت، وصلى أتباعه بجوار نهر اللوّار، ووصلوا ترمذ، وطشقند، وسمرقند.
فظهر دينه وشرعه ودولته - صلى الله عليه وسلم -.
يأتي في الخندق وعلى بطنه حجران من الجوع، وعلى بطن أصحابه حجر واحد، فينزل ويضرب صخرة في الخندق، قد أعيت الأبطال، فيطير شرارها، فيقول: " الله أكبر ... رأيت قصور كسرى وسوف يفتحها الله عليّ ".
فيتضاحك المنافقون، ويقولون: " ما وعدنا الله ورسوله إلا غروراً ". (الأحزاب: الآية 12)، الواحد منا لا يستطيع أن يجول من الخوف، وهو تفتح له قصور كسرى.
فضرب الضربة الثانية، فلمع لامع كالبارق، فقال: " أريت قصور قيصر، وسوف يفتحها الله عليّ ". (6)
وقد صدق - صلى الله عليه وسلم - ... فقد فتحها صحابته، لا غيرهم، بعد سنين قصيرة من موته - صلى الله عليه وسلم -.
ودخل - صلى الله عليه وسلم - على أم حرام بنت ملحان، ليقيل عندها، فلما نام قليلاً، استيقظ وهو يضحك، فقالت: ماذا يضحكك يا رسول الله، أضحك الله سنك؟
قال: " رأيت أناساً من أمتي يركبون البحر كالملوك على الأسرة " فقالت: ادع الله أن يجعلني منهم.
قال: " أنت منهم ".
ثم نام، فرأى رؤيا أخرى، وأخبرها بما رأى.
فقالت: ادع الله أن يجعلني منهم.
قال: " أنت مع الأولين ".
فركبت البحر في عهد معاوية بن أبي سفيان عندما كان يريد فتح القسطنطينية، فماتت شهيدة في البحر. (7)
" أفسحرٌ هذا أمْ أنتم لا تُبصرون ". (الطور: الآية 15)
وأتى أبو بكر الصديق فتعلم الهمة من الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فكان في الصف الأول دائماً .. فهو لا يسبق أبداً.
سلم أمواله كلها للمسلمين في سبيل الله.
قال - صلى الله عليه وسلم - في الصحيح: " إن للجنة أبواباً ثمانية، فمن كان من أهل الصدقة دعي من باب الصدقة "، وهكذا الأبواب الأخرى للعبادات ... فكل يدعى بحسب العبادة التي كان يجتهد فيها في الدنيا: الصلاة، أم الصيام، أم الجهاد، أم الصدقة.
فقال أبو بكر: يا رسول الله! هل يدعي أحد من الأبواب الثمانية؟
قال: " نعم، وأرجو أن تكون منهم " (8)، إنها الهمة العالية التي جعلته يبادر بهذا السؤال، لأنه علم من نفسه أن سيتجاوز الباب والبابين إلى تلكم الأبواب الثمانية.
فحق أن يتوج بقول المتنبي:
وإن تفق الأنام وأنت منهم ... فإن المسك بعض دم الغزال
ولكن شتان ما بينه وبين المتنبي الذي كانت له همة عالية، ولكن كانت لا تفارق طموحاته الدنيا من الإمارة، والأموال، كشأن عبيد الدنيا. ومن أقواله البديعة في تلك الهمة ... وليتها كانت في سبيل الله .. قوله:
ولا تحسبن الملك زقّا وقيْنة ... فما الملك إلا السيف والفتكة البكر
وتضريب أعناق الملوك وأن ترى ... لك الهبوات السود والعسكر المجر
وتركك في الدنيا دويّاً كأنما ... تداول سمع المرء أنمله العشر
وشابهه في تلكم الهمة الحقيرة أبو مسلم الخراساني، الذي أقام دولة بني العباس، فكان حادّ الذكاء، صاحب شجاعة لكنه استثمرها في الباطل، وفي قتل عباد الله من المسلمين في سبيل الله إقامة تلكم الدولة التي ما لبثت أنْ زالت وطواها النسيان، لأنها لم تؤسس على التقوى من أول يوم.
فذبحه أبو جعفر المنصور بعد أن خشي من تلك الهمة الدنيوية التي يحملها.
وهكذا الشاعر الجاهلي امرؤ القيس الذي يقول:
¥