[مفهوم النسج في كتاب عيار الشعر لابن طباطبا]
ـ[د. حسين الجداونة]ــــــــ[29 - 06 - 2008, 01:40 م]ـ
مفهوم النسج
في كتاب عيار الشعر لابن طباطبا
على الرغم من كثرة الدراسات حول كتاب "عيار الشعر" لابن طباطبا التي اعتنت بمنهجه ومفهومه للشعر وللموضوع الرئيس في الكتاب وهو عيار الشعر، إلا أنها في ما أرى قد أغفلت جانباً في غاية الأهمية ألا وهو مفهوم الصياغة والأسلوب في الكتاب أو ما أسماه ابن طباطبا "النسج". والدارس للكتاب يستطيع أن يكتشف مدى الأهمية البالغة التي أولاها هذا الناقد لموضوع النسج، الذي يطلق عليه مصطلح الأسلوب. ففي الكتاب مادة غزيرة عن النسج ومجالاته ومعاييره، إلا أنها منثورة في ثناياه نثرا، ولم تكن الهدف الرئيس من تأليف الكتاب، فقد كانت عناية الكاتب الظاهرة متعلقة في "عيار الشعر" أو معايير الشعر الجيد والرديء، إلا أن هذه المعايير لا تنهض ولا تتشكل إلا من خلال النسج، وبالتالي فقد دخل هذا الموضوع في جميع المعايير التي تناولها ابن طباطبا. فالنسج هو المادة التي نهض عليها الكتاب.
وحديث ابن طباطبا عن النسج ومفهومه وأهميته ومجالاته ومعاييره يكرس منه ناقداً شكلانياً فذاً، وناقداً جمالياً، فهو لم يهمل المعنى أو اللفظ (التركيب) وإنما اعتنى بهما عناية فائقة، وهو لا يرى لأحدهما وجوداً في معزل عن الآخر.
هذه الدراسة في مفهوم النسج، دراسة تأصيلة لجهود ابن طباطبا في هذا المجال، ومحاولة لمقاربة مفاهيمه وتصوراته النقدية عن العمل الشعري وعن الشعرية، وما الذي يجعل الشعر شعراً ذلك السؤال الملح والمقلق، فالدراسة تنهض بهذا الجهد للكشف عن تصور الناقد العربي القديم في هذا المجال.
استخدم ابن طباطبا مصطلح النسج ومشتقاته غير مرة في "عيار الشعر"، فقد شبه الشاعر بالنساج الحاذق " الذي يفوف وشيه بأحسن التفويف ويسديه وينيره،ولا يهلهل شيئاَ منه فيشينه " (العيارص8). وفي نص ابن طباطبا مجموعة من الأسماء يحسن أن توضح دلالاتها الأصلية الحسية لأنها تضيء فهمه لعملية النسج.
فالنسج: ضم الشيء إلى الشيء هذا هو الأصل (نسج) ونسج الحائك الثوب: ينسجه نسجاَ لأنه ضم السدى إلى اللّحمة.والسّدى من الثوب خلاف اللّحمة وهو ما يمدّ طولاَ في النسيج والواحدة سداة (ج) أسداء وأسدية. واللّحمة في الثوب خيوط النسج العرضية يلحم بها السدّى. والنيرة من أدوات النساج ينسج بها وهي الخشبة المعترضة كقول الشاعر:
فما تأتوا يكن حسناَ جميلاَ وما تسدوا لمكرمة تنيروا
يقول: إذا فعلتم فعلاَ أبرمتموه.
ويقول الشاعر:
ألم تسأل الأحلاف كيف تبدّلوا بأمر أناروه جميعاَ وألحموا
وثوب ذو نيرين: إذا نسج على خيطين. أما الوشي فهو من كل لون والوشي في اللون خلط لون بلون وكذلك في الكلام. ووشى الثوب وشيا أي نسجا وتأليفا ووشى الثوب: حسنه ولونه وزينه.
وأما التفويف فهو من فوف، الفوف: الحبة البيضاء في باطن النواة التي تنبت منها النخلة. الفوفة: القشرة الرقيقة تكون على النواة،والفوف: ضرب من برود اليمن،والفوف: ثياب رقاق من ثياب اليمن موشاة، برد مفوف أي رقيق،وبرد مفوف: خطوط بيض. وفي حديث كعب: ترفع للعبد غرفة مفوفة وتفويفها لبنة من ذهب وأخرى من فضة ().
من كل ذلك نستطيع أن نقترب من تصور ابن طباطبا عن صناعة النسج، ولماذا شبه الشاعر بالنساج والشعر بالنسيج، فالنساج الحاذق الماهر يضم خيوطه إلى بعضها ضما محكما، وتتداخل خيوطه ببعضها مما يجعل نسجه متينا قويا،ويزين نسجه ويوشيه ويحسنه ويدخل ألوانه ببعضها بحيث تشكل لوحة رقيقة جميلة، ولا تعني الرقة هنا الضعف وإنما جودة الخيوط التي نسجت منه وهي مضلعة،، وكل ما ورد يشير إلى إحكام تأليف الشعر، وعرضه بصورة حسنة.
ونلحظ تأكيده أمرين: الأول أن المادة التي تنسج جيدة ومن نوع حسن، والآخر: الشكل وهو الصورة التي تشكل الخيوط أو المادة الخام.
وتشبيه الشاعر بالنساج والشعر بالنسيج يثير قضيه مهمة،هي علاقة الشكل بالمضمون، وهي علاقة تكوينية، فلا نسيج إلا بمادة وصورة (شكل)، وحذف أحدهما يؤدي إلى تدمير الآخر فنقض الصورة هو نقض للمادة في الوقت نفسه.
¥