[ثنائية الموت والحياة في شعر أبي فراس الحمداني]
ـ[محمد سعد]ــــــــ[17 - 01 - 2008, 01:05 ص]ـ
عن مجلة التراث العربي-العدد 105 السنة السابعة والعشرون - كانون الثاني 2007 - المحرم 1428
ثنائية الموت والحياة في شعر أبي فراس الحمداني 320 ـ 375هـ ـ 932 ـ 968م ـــ د. أحمد فوزي الهيب
الموت نهاية كل حي مهما طال به البقاء، ولعله الحقيقة الوحيدة التي اتفق عليها الناس جميعاً رغم اختلاف عقائدهم ومذاهبهم، ورغم اختلافهم على ما بعد الحياة الدنيا من حياة أخروية أو عدم. لذلك نجد الناس جميعاً يفكرون بالموت بشكل ما، وإن اختلفت نظراتهم إليه، واختلفت حيواتهم بناء على ذلك، لأنه ـ كما يقول الدكتور بيتر شتاينكرون ـ غريزة كامنة في أعماق النفس الإنسانية، كغريزة الحياة سواء بسواء، فكل واحد منا لدي في فطرته الغريزتان، وإن كانت غريزة الحياة واضحة ظاهرة الأثر في حركاتنا وسكناتنا، بينما الغريزة الأخرى، غريزة الموت، لا تظهر واضحة جلية إلا لمن أمعن النظر، ولم تخدعه ظواهر الأمور ([1]).
وكأن الغريزتين المتضادتين جوادان، أحدهما أبيض ناصع البياض، والآخر أسود حالك السواد، يتنازعان المرء شداً وجذباً، ولكن الجواد الأبيض يظل في الغالب فياض الحيوية، له الكلمة العليا إلى أن يُغلب على أمره، فينطفئ سراج الحياة، وتكون الكلمة للجواد الأسود، ولكن يحدث أحياناً أن تنعكس تلك الآية تحت ضغط بعض الظروف، فإذا الجواد الأسود هو الغالب منذ البداية، فينتشر على وجه الحياة ظل الموت ويندفع المرء في تياره ([2]).
وعلماء النفس اليوم يعترفون بهذا الازدواج، وإن كان الإنسان العادي يجهل ذلك الوجود المزدوج لغريزتي الموت والحياة، فهذا فرويد يقول بصراحة ووضوح: غاية الحياة هي الموت. ثم نراه يقرر أيضاً: أن كل إنسان لديه دافع إلى إعدام نفسه، ولكن هذا الدافع يختلف في مقداره وقوته باختلاف الأشخاص ([3]). وهذا أيضاً تلميذه وصديقه (هانز ساخس) يقول أيضاً: إن جميع مظاهر الحياة هي نتيجة ذلك التجاذب الذي لا نهاية له بين غريزة الحياة بانتصاراتها الظاهرة وغريزة الموت بقوتها الساكنة الخفية التي لا تقهر ([4]).
وقوة البقاء التي تلازمنا منذ ولادتنا، غالباً ما تكون من السطوة، بحيث تشل حركة الغريزة المضادة لها، فتبقيها نائمة معطلة. ولكن يحدث في بعض الأحيان أن تكون قوة الهلاك أشد في الشخص من قوة البقاء، فينجم عن ذلك ما يمكن أن نسميه مغامرة أو تهوراً أو مخاطرة أو غير ذلك، ونصف صاحبها بأنه مغامر أو متهور أو مخاطر، بينما يسمي ذلك فرويد غريزة الفناء ([5]).
ولعلنا نستطيع اعتماداً على هذه النظريّة أن نفهم بصورة أوضح تحريم الله تعالى للانتحار تحريماً شديداً على الرغم من إباحته للشهادة بل تشجيعه عليها، لأنها في سبيل مثل أعلى كالدفاع عن الوطن والأهل وغير ذلك.
ولعل هذه النظرية تنطبق بشكل ما على أبي فراس الحمداني ([6])، أو لعله يمثلها خير تمثيل، إذ نجده والموت رفيقين صديقين حميمين، تصاحبا قبل الولادة، وبُعيدها، وبعدها، وظلاّ معاً إلى أن تمكن الحصان الأسود في داخله أن يسبق الحصان الأبيض، وأن يسدل الستار على مأساة حياته.
عرف أبو فراس الموت قبل ولادته، إذ ورثه في صبغياته (كروموزوناته) من قبيلة تغلب ذات الأمجاد الخالدة التي تمتد جذورها إلى الجاهلية، حتى قيل: لو أبطأ الإسلام لأكلت بنو تغلب الناس ([7]). ومن منا لم يسمع بحرب البسوس بينها وبين بكر، التي استمرت أربعين سنة تأكل الأخضر واليابس وتحصد الرجال ([8])، ومن لم يسمع بأبطالها وشعرائها مثل المهلهل وكليب وعمرو بن كلثوم وأبيه ([9]). وعلى الرغم من خفوت صوت تغلب في بداية الإسلام، فقد استرجعته زمن الأمويين، إذ نجده مدوياً لدى كعب بن جعيل والأخطل وأشعارهما ([10]). كما نجده أيضاً في صليل سيوف الحروب الضارية بين تغلب وقيس ([11]).
وفي زمن الدولة العباسية ازداد صوت تغلب علواً، لأنه صار يمثل التيار العربي الصافي بين أمواج السيول الأعجمية الهادرة في القرن الرابع الهجري، وقد استطاع بنو حمدان التغلبيون أن يبلوا بلاء حسناً في مساندتهم للخلافة العباسية حتى تدافع عن نفسها وعن العرب والإسلام ضد الثورات والمؤامرات الداخلية، وضد الروم وغيرهم من الخارج، وكان في مقدمتهم سيف الدولة وأخوه ناصر الدولة وأبو فراس ([12]).
¥