قراءة في قصيدة:"الوداع الأخير" للسيّاب.
ـ[أبو ذكرى]ــــــــ[12 - 12 - 2008, 08:13 م]ـ
(الوداع الأخير) لبدر شاكر السيّاب
والتف حولك ساعداي ومال جيدك في اشتهاء
كالزهرة الوسني فما أحسست إلا والشفاة
فوق الشفاة وللمساء
عطر يضوع فتسكرين به وأسكر من شذاه
في الجيد والفم والذراع
فأغيب في أفق بعيد مثلما ذاب الشراع
في أرجوان الشاطئ النائي وأوغل في مداه
.
شفتاك في شفتي عالقتان والنجم الضئيل
يلقي سناه على بقايا راعشات من عناق
ثم ارتخت عني يداك وأطبق الصمت الثقيل
يا نشوة عبرى وإعفاء على ظل الفراق
حلواَ كإغماء الفراشة من ذهول وانتشاء
دوما إلى غير انتهاء
.
يا همسة فوق الشفاة
ذابت فكانت شبه آه
يا سكرة مثل ارتجافات الغروب الهائمات
رانت كما سكن الجناح وقد تناءى في الفضاء
غرقي إلى غير انتهاء
مثل النجوم الآفلات
لا لن تراني لن أعود
هيهات لكن الوعود
تبقى تلحّ فخفّ أنت وسوف آتي في الخيال
يوما إذا ما جئت أنت وربما سال الضياء
فوق الوجوه الضاحكات وقد نسيت وما يزال
بين الأرائك موضع خال يحدق في غباء
هذا الفراغ أما تحس به يحدق في وجوم
هذا الفراغ أنا الفراغ فخف أنت لكي يدوم!
.
هذا هو اليوم الأخير؟!
واحسرتاه! أتصدقين؟ ألن تخفّ إلى لقاء؟
هذا هو اليوم الأخير فليته دون انتهاء!
ليت الكواكب لا تسير
والساعة العجلى تنام على الزمان فلا تفيق!
خلفتني وحدي أسير إلى السراب بلا رفيق
.
يا للعذاب أما بوسعك أن تقولي يعجزون
عنا فماذا يصنعون
لو أنني حان اللقاء
فاقتادني نجم المساء
في غمرة لا أستفيق
ألا وأنت خصري تحت أضواء الطريق؟!
.
ليل ونافذة تضاء تقول إنك تسهرين
أني أحسّك تهمسين
في ذلك الصمت المميت ألن تخف إلى لقاء
ليل ونافذة تضاء
تغشى رؤاي وأنت فيها ثم ينحل الشعاع
في ظلمة الليل العميق
ويلوح ظلك من بعيد وهو يومئ بالوداع
وأظل وحدي في الطريق.
القراءة
في لحظة ما تخطر ببال المرء فكرة أو خاطرة، يراها قريبة منه، حتى يمتلك ناصيتها، ويأخذ بزمامها، فإن لم يسارع إلى تقييدها، أو تشاغل عنها، فإنها تعدو هاربة عنه، مودّعة إياه وداعا ربما هو كعنوان هذه القصيدة
يسلمنا النص في بدايته عند فجوتين، لا بد من ملئهما قبل الشروع في قراءة النص، تتمثل الفجوة الأولى في الكلام المسكوت عنه الذي يتصل بالواقع الذي عاشه الشاعر قبل الواقع الذي جسده في الملفوظ.
نستطيع أن نملأ تلك الفجوة، بلقاءات سابقة بين الذاتين اللتين عبر عنهما الملفوظ الشعري، انتهى كل لقاء بوداع، وأعقب كل وداع لقاء، إلى أن جاء اللقاء الأخير الذي عبر عنه الملفوظ، والذي انتهى بوداع، حسّ بعده الشاعر أنه يسير في الطريق بلا رفيق. وهذه الفجوة عبر عنها عنوان النص (الوداع الأخير)، مشيرا إلى وداعات سابقة.
وفجوة أخرى في أحداث سبقت أول سطر في الملفوظ، فالشاعر لم يعبر بملفوظه عن كل ما جرى في اللقاء الأخير، وقد دلنا على ذلك (الواو) في قوله:
والتف حولك ساعداي ...
وتتمثل في لحظات من القرب التدريجي والألفة المتصاعدة بين الذاتين: الشاعر وفكرته، حتى بدأ الملفوظ يكشف عن لحظة التماهي بين الذاتين، لحظة اتحاد كل منهما في صاحبه، فيغيب الشاعر في أفق فكرته حين يبحر فيها ويتعمّق، مثلما يذوب الشراع، وهو يبحر في البحر ويتعمق فيه.
ويطالعنا النص بالوقت الذي جرت فيه كل الأحداث، وهو وقت المساء، الذي يخلو في الشاعر للكتابة، حيث الخلوة والسكون:
والتف حولك ساعداي ومال جيدك في اشتهاء
كالزهرة الوسني فما أحسست إلا والشفاة
فوق الشفاة وللمساء
عطر يضوع فتسكرين به وأسكر من شذاه
في الجيد والفم والذراع
فأغيب في أفق بعيد مثلما ذاب الشراع
في أرجوان الشاطئ النائي وأوغل في مداه
ويستمر اللقاء إلى أن تصل المسافة بينهما إلى العدم، وتبلغ العلاقة أوج قوتها ومداها، حين ارتخت يداها، وخارت قواها، وهيمن الصمت، واستسلمت وتهيأت لتحكم شاعرها:
شفتاك في شفتي عالقتان والنجم الضئيل
يلقي سناه على بقايا راعشات من عناق
ثم ارتخت عني يداك وأطبق الصمت الثقيل
لكن الذات الشاعرة لا تستغل تلك الحال، فتنشغل بالتلذذ بما تحس به من نشوة القرب والحضور، فتغدو نشوة عابرة، وأثرا مآله الزوال:
يا نشوة عبرى وإعفاء على ظل الفراق
حلواَ كإغماء الفراشة من ذهول وانتشاء
دوما إلى غير انتهاء
¥