[قضية القضاء والقدرفي الأدب ... تناول إسلامي ...]
ـ[صَبْرُ أيوب]ــــــــ[23 - 09 - 2007, 01:20 ص]ـ
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده ... أما بعد:
فإذا نظرنا إلى أدبنا العربي نجده حافلاً بالحديث عن قضية القضاء والقدر، وتظهر لنا فيه النظرة الإنسانية للقضاء والقدر جلية سواء أكانت إيجابية أو سلبية.
يقول وضاح اليمن وقد نُعيَ إليه صديق له:
"وأعظم ما رميتُ به فُجُوعاً كتابٌ جاء من فَجٍ عميقِ
يُخبِّرُ عن وفاةِ أخٍ ,فصبراً تنجزَّ وعدُ منانٍ صَدوقِ
سأصبرُ للقضاء, فكل حيٍ سيلقى سكرة الموت المَذوقِ"
ففي الأبيات السابقة تتمثل النظرة الإيجابية الناصعة للقضاء والقدر، فالبرغم مما دهي به من مصيبة نعتها بأعظم المصائب، تذكر ما يتوجب عليه حيال ذلك من الصبر على قضاء الله، فكل مقدور كائن، وكل إنسان سيشرب من كأس المنية، وما على الإنسان إلا التزام الرضا والتسليم.
وفي قصة الرجل الذي دخل على عروة بن الزبير نجد العجب العجاب من توفيق الله سبحانه وتعالى لهذا الرجل، وربطه على قلبه، إذ يقول: بت ليلة في بطن واد، ولا أعلم عبسياً يزيد ماله على مالي فطرقنا سيلٌ فذهب بما كان لي من أهل ومال وولد، غير بعيرو صبي مولود، وكان البعير صعباً فندَّ، فوضعت الصبي، واتبعت البعير، فلم أجاوز قليلاً حتى سمعت صيحة ابني ورأسه في فم الذئب وهو يأكله، فلحقت البعير لأحبسه، فنفحني على وجهي فحطمه وذهب بعينيَّ، فأصبحت لا مال لي ولا أهل ولا ولد ولا بصر.
فانظر إلى فعل القدر، إذ ذهب السيل بأهله وماله، وراح ولدهُ الباقي فريسة للذئب، وكان جمله الشارد سبباً في ذهاب بصره، ومع كل هذا يذكر الله ويشكره، ويسلم ويقتنع، بل ويروي ذلك لأهل المصائب ليخفف عنهم، هذه ــ ولا شك ــ نظرة إيجابية للقضاء والقدر.
ونرى فريقاً من الأدباء ينطلقون من النظرة السلبية الساخطة على القضاء والقدر، التي ترى فيه كل مكروه، كقول أحدهم:
"مصائبُ الدهر كفِّي إن لم تكفي فعفي خرجت أطلب رزقي وجدت رزقي توفي
فلا برزقي أحظى ولا بصنعة كفي كم جاهل في الثُّريا وعالم متخفي" (كذا)
فأي قنوط، وأي سخط، وأي اعتراض!
وعندما ننظر لشاعر قريب العهد، هو الشاعر: محمد حسن فقي، الذي يؤمن بقضاء الله وأنه واقعٌ لا محالة، ومع ذلك نجده يرضى رضا المُكرَه، ويسلم تسليم المُجْبر، إذ يقول في ديوانه المعنون
بـ (قدرٌ .. ورجل) في قصيدة سماها (عذاب الحيرة):
"لم لست أقنع في الحياة بكل أوطار الحياة
لم حين تمنحني الهبات أضيق ذرعاً بالهباتْ
ويشوقني الحرمان ثم أضيق بالحرمان من كلفي بذاتي
ويحي فما أشكو سوى أني أعيش بلا ثبات
إلى قوله:
ويهولني قدري ولكن ليس عن قدري محيدْ
ويقول فيها:
قد ساقني قدري ... وها أنا في المتاهة سائر
أأكف عن سيري؟ وكيف؟ وما يكف الزجر
أم هل يسير ولو هلكت؟ وما لدربي آخر
قلتُ: هذا مما يستغرب، فكيف تستبد الحيرة وتطغى على شعر مسلم يملك الأجوبة، وهذا يتضح في قوله:
ما تعرفين ولست أعرف ما يدبره القضاء
فإذا سخطت فإنه قدر يسير كما يشاء
وإذا رضيت فقد يكون رضاك قنطرة النجاء"
فهو يعرف أن كنه القضاء مجهول، وأن السخط لن يغير من المقدور شيئا، ويعرف أن الرضا هو (قنطرة النجاءْ)، ولكنه سبقه (بقد) الدالة على التقليل مما يدل على أن سلطان التردد مازال مستمراً على نفسيته، ولا أجد لهذا التردد والحيرة والقلق من القدر الوارد في شعر فقي تفسيراً غير مجاراة من كانوا في عصره من أهل المهجر وغيرهم، من الذين لا يدينون بدين الحق، فركب مطاياهم، ونهج نهجهم، وهام في وديان باطلهم بحثاً عن التجديد الموهوم.
فانظر إلى شاعرهم إيليا أبي ماضي يقول في قصيدة يصف القدر ويعجب من ظلمه:
"لله من عبث القضاء وسخره بالناس والحالات والأشياءِ
كم درةٍ في التاج ألف مثلها في القاع لم تخرج من الظلماء
ولكم جنى علمٌ على أربابه وجنى الهناءَ جماعةُالجهلاءِ"
فهو يقرر هنا حقيقة يؤمن بها، وهي أن القضاء يعبث بالناس، وينزل بعضهم منزلتهم فيكونون في التاج ويجور على بعضهم فيبقيهم مهملين في القيعان، ولم يكفه أن تمتلئ نفسه بهذه النظرة السلبية حتى دعا لها الطير، وقد رأت الإنسان ــ وهو صائدها على الأرض ــ يطير في الفضاء معها:
"أبصرتهُ فأكبرتْ أن ترى في الجـ
ـــوِّ صيادها على الغبراءِ
فاستوى في قلوبها الذعرُ حتى
كادَ يحكي البلاءَ خوفُ البلاءِ
وتناجتْ تبغي النجاة فراراً
أينَ أينَ المفرُ من ذا القضاءِ؟
اهبطي، أو فحلقي، أو فسيري إنما المنتهى إلى الأرزاءِ" (كذا)
ومما تقدم تتبين لنا النظرة الإنسانية للقضاء والقدر في زيها الناصع الذي يمثله الأدباء الراضون بقضاء والله وقدره ففاضت نفوسهم بهذا الرضا أدباً راضياً مستنيراً بنور ربه، وفي زيها الساخط على القضاء النابع من الجهل، من أدباء جهلوا حقيقة القضاء مما أحال حياتهم وأدبهم جحيماً يتعذبون به ويعذبون معهم النفوس الساخطة.
كتبه: عبد العزيز بن علي الغامدي ...
¥