فهذه الأبيات مثال على رثاثة الكسوة.
وفي المقابل يشير ابن طباطبا إلى المعرض الحسن والكسوة البهية يقول:" فأما المعنى الصحيح، البارع الحسن، الذي أبرز في أحسن معرض، وأبهى كسوة وأرق لفظ فقول مسلم بن الوليد الأنصاري (العيار ص 147):
وإني وإسماعيل بعد فراقه لكالغمد يوم الروع زايله النصل
فإن أغش قوماَ بعده أو أزرهم فكالوحش يدنيها من الأنس المحل
فابن طباطبا معجب بالتشبيه (المعرض، والكسوة) الذي عرض به المعنى الصحيح. وهو يرى أن المشبه به صادق في التعبير عن المعنى الذي يريده الشاعر ومعبر عنه حق الوفاء، والشاعر من ناحية أخرى يستقصي المعنى فيعبر عن أثر فقد الصديق في حالتي الحرب والسلام، وكلا الصورتين المختارتين صادقتان في التعبير عن معنى الشاعر ومشاعره و أحاسيسه. من جهة ثانية نلحظ "الفصل" بين الفعل والفاعل من غير أن يعترض عليه ابن طباطبا، بل عده من الكسوة البهية. مما يدل على أنه لا يعترض على التقديم والتأخير أو الفصل إذا لم ينتج عنه لبس في المعنى.
ووقف الجاحظ عند هذا المصطلح فقال:"والمعاني إذا كسيت الألفاظ الكريمة، وألبست الأوصاف الرفيعة، تحولت في العيون عن مقادير صورها، وأربت على حقائق أقدارها، بقدر ما زينت، وحسب ما زخرفت، فقد صارت الألفاظ في معاني المعارض، وصارت المعاني في معنى الجواري" (). وليس موقف ابن طباطبا ببعيد عن موقف الجاحظ.
اللطف:
من الأسماء أو المصطلحات الأسلوبية الدالة على النسج والتأليف "اللطف" ومشتقاته، فمن خلال استعمالات ابن طباطبا لهذا المصطلح يمكن الكشف عن دلالته الدقيقة عنده. فاللطف يتصل بالاعتدال وعدم الجور،وهو يذكر أن علة قبول الشعر "أن كل حاسة من حواس البدن إنما تقبل ما يتصل بها مما طبعت له إذا كان وروده عليها وروداَ لطيفاَ باعتدال لا جور فيه وبموافقة لا مضادة معها " (العيار ص20).ويشير إلى لطف موالج الكلام التي تتحقق إذا كان الكلام "منظوماَ مصفى من كدر العي، مقوماَ من أود الخطأ واللحن، سالماَ من جور التأليف، موزوناَ بميزان الصواب لفظاَ ومعنىَ وتركيباَ اتسقت طرقه، ولطفت موالجه فقبله الفهم وارتاح له وأنس به " (العيارص20ـ21).
فاللطف يتعلق بمسائل أسلوبية تتعلق بالعبارة، ويترتب على اللطف القبول والارتياح والأنس بما يرد على الفهم من عبارات.
وذكر من أدوات الشعر التي يجب إعدادها قبل مرام الشعر ونظمه اللطف،وقد ورد ذلك في سياق ملاحظات تتعلق بالأسلوب مثل التعريض والتصريح والإطناب والتقصير، والإطالة والإيجاز (انظرالعيارص6).
ويتعلق اللطف بطريقة صلة الأغراض ببعضها "فيحتاج الشاعر إلى أن يصل كلامه – على تصرفه في فنونه – صلة لطيفة فيتخلص من الغزل إلى المديح ومن المديح إلى الشكوى ....... بألطف تخلص وأحسن حكاية بلا انفصال للمعنى الثاني عما قبله بل يكون متصلاَ به وممتزجاَ معه" (العيار ص9). فاللطف هنا يعني امتزاج الموضوعات ببعضها واتصالها اتصالاَ وثيقاَ.
وهو يجعل "اللطف" علة الإعجاب بالشعر والإثابة عليه "والشعراء في عصرنا إنما يثابون على ما يستحسن من لطيف ما يوردونه من أشعارهم، وبديع ما يغربونه من معانيهم، وبليغ ما ينظمونه من ألفاظهم، ومضحك ما يوردونه من نوادرهم وأنيق ما ينسجونه من وشي قولهم " (العيار ص13). فاللطف كما نلحظ يتصل بالمعاني والألفاظ والنسج، وهي جميعها عناصر الأسلوب.
ويتصل باللطف الاختصار والإيماء، فهو يقول: " وتأمل لطف الأعشى فيما حكاه واختصره في قوله:
أأقتل ابنك صبراَ أو تجيء بها ..........................
فأضمر ضمير الهاء في قوله:
واختار أدراعه أن لا يسب بها .........................
فتلافى ذلك الخلل بهذا الشرح، فاستغنى سامع هذه الأبيات عن استماع القصة فيها لاشتمالها على الخبر كله بأوجز كلام وأبلغ حكاية وأحسن تأليف وألطف إيماء " (العيار ص 75 - 76).
ويتصل مصطلح اللطف بمصطلح الكسوة وبالبناء الشعري يقول: " وإذا تناول الشاعر المعاني التي سبق إليها فأبرزها في أحسن من الكسوة التي عليها لم يعب بل وجب له فضل لطفه وإحسانه فيه " (العيار ص123). فاللطف هنا الصيغة الجمالية التي يبرز الشاعر بها المعنى وهي موضع المفاضلة بين قول وقول.
¥