أمّا كمال أبو ديب فيرى "أن استخدام الكلمات بأوضاعها القاموسية المتجمدة لا ينتج الشعرية بل ينتجها الخروج بالكلمات عن طبيعتها الراسخة إلى طبيعة جديدة. وهذا الخروج هو خلق لما أسميه الفجوة: مسافة التوتر، خلق للمسافة بين اللغة المترسبة وبين اللغة المبتكرة في مكوناتها الأولية وفي بناها التركيبية وفي صورها الشعرية. إن الشاعر, من جهة, يمارس فاعلية جماعية ويمتاح من الروح الجماعية بمجرد أنه يستخدم لغة اصطلاحية معروفة مدركة لكنه في الوقت نفسه لا يستخدم هذه اللغة بما هي اصطلاح معروف مدرك, بل يدخلها في بنى جديدة تكتسب فيها دوراً, وفاعلية ودلالات جديدة" (). وهو بهذا يرى أن الشعرية: "وظيفة من وظائف العلاقة بين البنية العميقة والبنية السطحية، وتتجلى هذه الوظيفة في علاقات التطابق المطلق أو النسبي بين هاتين البنيتين، فحين يكون التطابق مطلقاً تنعدم الشعرية (أو تخف إلى درجة الانعدام تقريباً) وحين تنشأ خلخلة وتغاير بن البنيتين تنبثق الشعرية وتتفجر في تناسب طردي مع درجة الخلخلة في النص" ().
ويذهب محمد لطفي اليوسفي إلى "أن الكلمة ليست مجرد لفظ محدد المعنى, بل هي عبارة عن مستقر تلتقي فيه إمكانات كثيرة من الدلالات. إنها بتعبير آخر عبارة عن حيز يتواجد فيه أكثر من احتمال، غير أن الاستعمال المتعارف أي طريقة توظيف الكلمة في سياقات معتادة، هو الذي يجعل دلالةً ما تطغى على كل الاحتمالات. وعندما يعيد الشاعر تركيب الكلام يكون قد أدخل الكلمة في شبكة من العلاقات تجبر ذلك الحشد الدلالي على البروز. هنا بالضبط ينزل الشعر إنه يحرر الكلمة من المواضعة الاصطلاحية، ويصبح نوعاً من الكلام يكسر القواعد ويتجاوز السنن، ليؤسس تبعاً لذلك، آفاقاً جديدة مليئة بالرؤى والاحتمالات" ().
وتشير ديزيره سقال إلى التوسع الناتج عن طبيعة الشعر, فنا, ً التي تأبى أن ترضخ للمحدودية "فتحاول أن تجرد الكلمات مما يجعلها مألوفة على مستويين:
1. مستوى الذاكرة الاصطلاحية.
2. مستوى دخول المفردة في التركيب.
فالمستوى الأول يكسب الكلمة ذاكرة توسع فضاءها الدلالي ... والمستوى الثاني يدخل في إطار خلق الصورة" ().
ويهمنا أن نلحظ أن الباحثة ترى أن ثمة توسعاً دلالياً للكلمة الشعرية, وليس انحرافاً أو انزياحاً يلغي علاقته بالأصل.
وترى الباحثة, كذلك, أن ثمة مستويين للدلالة المستوى الأول الدلالة العادية، أي دلالة الكلمة الاصطلاحية المتفق عليها. والمستوى الآخر الدلالة المكتسبة:" أي دلالة الكلمة التي- إلى جانب ذاكرتها- اشتملت على ذاكرة جديدة, غير مألوفة. وهذا يصير في معناه الأبعد المتطور ما يسمى بـ (الرمز) أو (الكلمة الرمزية) أو (المجازية) , فهي لا تحيل إلى موضوعها بل إلى شيء آخر، مستعيرة من موضوعها نفسه طاقته الدلالية لتتخطاها. وهنا تختلف شبكة العلاقات الداخلية بين الرمز (اللفظة) والموضوع (المعنى) عنها في مستوى "الدلالة العادية" لأن الأشياء تتداخل وتتواتر على غير ما هو مصطلح عليه، إنها بذلك خرق للمألوف والسائد، ويعني هذا تأسيس منظومة جديدة دلالية في بنية اللغة، تتخطى مقدرتها العادية المعروفة، هنا بشكل خاص يبدأ الفن وتنحل الرموز الشائعة إلى رموز جديدة بذاكرة جديدة" ().
إنّ المستوى الثاني أو الدلالة المكتسبة هو ما سماه القدامى "التوسع" بيد أن الفهم للدلالة المكتسبة لا ينفي الدلالة الأصلية في البنية المتسعة وما تعبر عنه بالفن الذي نعني به الإبداع باللغة.
اللغة الجديدة هي الشعر بمعنى "التجاوز الدائم ورفض القواعد الجامدة أو الجاهزة. بهذا الأفق نستطيع أن نقرأ انعطافات القصيدة, ونفهم محاولتها الدائمة للخروج من جلدها" (). وهذا ما عبر عنه عز الدين إسماعيل حين رأى أن الأديب يمتاز بأنه "يختار للكلمة المكان الذي تكون فيه أصلح كلمة تستخدم, وتكتسب الكلمة (وضعا) ً خاصاً باستخدام الأديب لها في ذلك المكان. وهذا جزء من عملية التطويع التي يتناول بها الأديب اللغة ليخضعها لغرضه, ويستخدمها استخداماً خاصاً" ().
¥