فتبتعد عنه حين لم يستغل لحظة قربها ودنوها واستسلامها بالتعبير عنها، فيحس بمرارة الفقد، وتغدو سكرة لكنها غير السكرة الأولى التي ذوبته في فكرته، إنها سكرة مثل ارتجافات الغروب الهائمات.
فهي وإن كانت في طريقها إلى الفناء، إلا أنها لم تذهب بعد، فتبدو كالغروب الذي لم تتعمق الظلمة فيه فيبهم، ولكنها ليست نهارا فتبين. إنها هائمة في الوجدان، بعد أن رانت لصاحبها في ومضة سريعة كسكون جناح الطائر، وقد تناءى في الفضاء، لا يلبث أن يتحرك، ويزول استقراره وسكونه:
يا همسة فوق الشفاة
ذابت فكانت شبه آه
يا سكرة مثل ارتجافات الغروب الهائمات
رانت كما سكن الجناح وقد تناءى في الفضاء
وهنا يطلب الشاعر إليها أن تغرق وتفنى وتأفل كالنجوم التي تتألق حينا من الزمن، ثم تأفل من غير عودة:
غرقي إلى غير انتهاء
مثل النجوم الآفلات
ويسلمنا النص إلى فجوة ثالثة، دلّ عليها حرف الجواب (لا) في قوله:
لا لن تراني لن أعود
هيهات
هذه الفجوة تتمثل في المفارقة بين قول الشاعر وفعله، فهو في الوقت الذي طلب إليها أن تأفل إلى غير رجعة، كان يبحث عنها، ويحرص على لقائها، ومن هنا يتحول النص إلى حوار بين الشاعر الباحث، وفكرته الذاهبة:
فتقول له: لا تجهد نفسك بحثا عني، فعبثا تحاول؛ لأنك لن تراني، وهيهات أن تصل إلي مهما حاولت وبذلت.
لكنها في الوقت نفسه لا تقتل أمله، بل تعده بالمجيء إليه يوما ما، قائلة: لا تجهد نفسك بحثا، فلا سبيل لك في الوصول، إلا أني سأخطر في خيالك يوما، أو ستقترب أنت مني دون وعي منك أو قصد، ومن يدري ربما تكون قد نسيتني، إلا أنك ما زلت تحتاجني، ومكاني شاغر لم يملأه غيري، فلا تتكلف لتملأه، مهما دعاك إلى ذلك، ولا تتصنع له؛ لكي يدوم ويستمر:
لكن الوعود
تبقى تلحّ فخفّ أنت وسوف آتي في الخيال
يوما إذا ما جئت أنت وربما سال الضياء
فوق الوجوه الضاحكات وقد نسيت وما يزال
بين الأرائك موضع خال يحدق في غباء
هذا الفراغ أما تحس به يحدق في وجوم
هذا الفراغ أنا الفراغ فخف أنت لكي يدوم فيجيبها مستعطفا، مظهرا شدة حاجته إليها، مبررا سعيه وبحثه، متحسرا على تفويته لحظة استسلامها له:
هذا هو اليوم الأخير؟!
واحسرتاه! أتصدقين؟
وما زالت تكرر عليه بأن البحث عنها لا يجدي ولا يوصله إلى ما يرومه، ولا سبيل أمامه سوى الانتظار:
ألن تخف إلى لقاء؟
ويزداد استعطافه، مظهرا استعجاله، واضطراره، فحاجته إليها في هذا اليوم الذي لا يريده أن ينتهي قبل أن يعثر عليها، ويصل إليها:
هذا هو اليوم الأخير فليته دون انتهاء!
ليت الكواكب لا تسير
والساعة العجلى تنام على الزمان فلا تفيق!
ثم يبدأ اليأس يأخذ منه، فيوقن بأن رحلة بحثة لم تكن إلى شيء، بل كان يلهث خلف سراب لا وجود له:
خلفتني وحدي أسير إلى السراب بلا رفيق
الأمر الذي أشعل هشيم نار العذاب في نفسه، وأضرم ألم الفراق، وقسوة الإحباط، وأوصله إلى خيبة أمل.
فيبادرها مستنكرا رغبتها وحرصها على تعذيبه، بإحيائها الأمل الكاذب، ووعدها بالمجيء، وقد كان حريا بها أن تشفق عليه، وتخلصه من شقاء البحث، وعذاب الانتظار:
يا للعذاب أما بوسعك أن تقولي يعجزون
عنا فماذا يصنعون
ثم يتمنى أن لو كان لقاء، أو استدل إلى الوصول إليها، وهو في مفازات البحث، وغياهب التيه بالنجم، فيلقاها لتنير له الدرب:
لو أنني حان اللقاء
فاقتادني نجم المساء
في غمرة لا أستفيق
ألا وأنت خصري تحت أضواء الطريق؟! إلا أنها لم تكن وحدها من أحيا فيه الأمل، بل هو نفسه قد بعث التفاؤل في نفسه، فحمّل نفسه عناء البحث، وتعب السعي إلى الوصول، في رحلة البحث الصامتة:
ليل ونافذة تضاء تقول إنك تسهرين
أني أحسّك تهمسين
في ذلك الصمت المميت ألن تخف إلى لقاء؟ إلا أنه ما زال يحث السير نحوها، ويرقب تلك النافذة المضيئة، ثم ينحلّ الشعاع، وهنا يصل الشاعر إلى قمة اليأس والإحباط، فيغدو ما كان غروبا في المقطع الثالث ليلا عميقا في المقطع السادس، فيطبق عليه الليل بظلمته العميقة الشديدة، ويلوح له ظلها مودعا من بعيد، فيدرك أنه يسير في الطريق وحيدا، وأن وداعها هذا هو الوداع الأخير:
ليل ونافذة تضاء
تغشى رؤاي وأنت فيها ثم ينحل الشعاع
في ظلمة الليل العميق
ويلوح ظلك من بعيد وهو يومئ بالوداع
وأظل وحدي في الطريق.
ـ[سامح]ــــــــ[12 - 12 - 2008, 11:29 م]ـ
.
.
قرأتُ قصيدة جميلة - رغم بعض التحفظات - أخرى للسياب
وأضافت قراءتُكَ عليها لمسة جمالية
ويلوح له ظلها مودعا من بعيد، فيدرك أنه يسير في الطريق وحيدا، وأن وداعها هذا هو الوداع الأخير:
أحسنت الختام كما أحسن السياب ختامه:)
أسعدك الله ...
ـ[حسن الغالبي]ــــــــ[10 - 02 - 2009, 02:51 ص]ـ
أبو ذكرى
بارك الله فيك
لقد أمتعتني بهذه
القراءة لقصيدة شاعر
مبدع هو بدرشاكر السياب
يرحمه الله ومن مات من المسلمين
تحياتي وتقديري مع أطيب تمنياتي.