أدرك ابن فارس أن الاستفهام قد يكون ظاهره استفهاماً، وباطنه تعجب، يقول: "ويكون استخباراً في اللفظ والمعنى تعجب، نحو:) فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ ([الواقعة: 56/ 8] " ([11]).
وما ذكره هنا يُعد توجيهاً بلاغياً مجازياً، فالاستفهام لم يرد على حقيقته، وهو طلب الفهم أو الاستفهام عن أصحاب الميمنة؛ بل تجاوز هذا المعنى اللغوي الظاهر لإفادة معنى آخر هو التعجب؛ لأنه من الأمور التي تدعو إلى التعجب، فقد دل على وصفهم بشيء لا يمكن وصفه، ولا يفي به التعبير بعبارة غير ما جاءت عليه، وهذا هو هنا سر جمالية أسلوب الاستفهام وبلاغته أنه ترك للمتلقي الفرصة لأن يتصور صفاتهم، ويتدبر حالهم فيما لو رغب في ذلك.
وما ذهب إليه ابن فارس هنا كان الفراء (ت 207هـ) قد أكده عندما قال: "عجَّب نبيّه منهم، فقال: ما أصحاب الميمنة؟ أي شيء هم" ([12]).
والتعجب ـ بمعناه الاصطلاحي ـ هو "استعظام أمر ظاهر المزية، خافي السبب، وإذا خرج من أسلوب النحو السماعي والقياسي إلى الاستفهام، فإنما يراد به المبالغة في إظهار التعجب" ([13]).
ولعل هذه المبالغة في إظهار التعجب جعلت ابن فارس يرى أنه قد يسمى الغرض في هذا الشاهد وما يماثله تفخيماً، ويستدل عليه بقوله تعالى:) ماذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ ([يونس: 10/ 50] ([14]).
وهذه الآية ذكرها الفراء، فرأى أن الاستفهام يحتمل معنيين؛ الأول على جهة التعجب؛ كقوله: ويلهم ماذا أرادوا باستعجال العذاب؟: والآخر: التعظيم؛ أي تعظيم أمر العذاب ([15]).
أما الزمخشري (ت 538 هـ) فلم ير فيها إلا معنى التعجب؛ "كأنه قيل: أي شيء هول شديد يستعجلون فيه" ([16]).
وجمع أبو حيان (ت 745 هـ) بين التعجب والتهويل؛ بقوله: "ما أشد وأهول ما تستعجلون من العذاب" ([17]).
ويبدو أن ابن فارس سعى إلى أن يحيط بدقائق المعاني التي أفادها الاستفهام بمعونة السياق، فرأى أن التعجب هنا قد يسمى تفخيماً. ورأيه هذا يحتمل أمرين؛ الأول: أنه حاول ألاَّ يجمع بين غرضين معاً في هذا الشاهد؛ إذ كان في إمكانه أن يفعل كما فعل أبو حيان عندما جمع بين غرضي التعجب والتهويل، أن يجمع هنا بين التعجب والتفخيم.
ولا يعني هذا أن نقلل من جهد ابن فارس لأن العلماء أحياناً يختلفون في رصد المعنى البلاغي الدقيق، فضلاً عن أنه كثيراً ما يُجمع بين التعظيم والتفخيم، فكلاهما بمعنى واحد، وهو الإجلال والإكبار والتقدير ([18]).
والأمر الثاني: أنه يقصدُ هنا بالتعجب (التفخيم)؛ لأننا نراه فيما بعد قد أفرد له غرضاً مستقلاً ([19]).
2 ـ التوبيخ:
وتنبه ابن فارس أيضاً إلى أن الاستفهام في قوله تعالى:) أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ ([الأحقاف: 46/ 20] لم يكن استفهاماً محضاً، بل هو "استخبار والمعنى توبيخ"،ثم يستدل عليه بقول الشاعر:
أغَرَرْتني وزَعمت أنَّـ
ك لابنٌ بالصيف تَامِرْ ([20])
فمعنى التوبيخ واضح في الشاهدين، فهو يفيد أن ما بعد الاستفهام واقع، وأن من يقوم به يستحق التقريع واللوم والتوبيخ.
وهذا المعنى ذكره الفراء عندما شرح الآية قائلاً: "العرب تستفهم بالتوبيخ ولا تستفهم" ([21])، وأشار إليه أبو حيان، لكن بعد أن جمع بين التوبيخ والتقرير ([22]).
ومما تجدر الإشارة إليه هنا أن العلماء ـ فيما بعد ـ توسعوا في دراسة استفهام التوبيخ، فجعله بعضهم من قبيل "الإنكار، بمعنى ما كان ينبغي أن يكون، أو بمعنى لا ينبغي أن يكون، والغرضُ من ذلك تنبيه السامع حتى يرجع إلى نفسه، فيخجل أو يرتدع عن فِعل ما هَمّ به، أو للتكذيب بمعنى لم يكن، أو لا يكون… ثم يشترطون له أن يلي المنكر الهمزةُ" ([23]).
3 ـ التفجع:
ويشير إلى غرض (التفجع) بقوله: "ويكون اللفظ استخباراً، والمعنى تفجع: نحو:) مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لاَ يُغَادِرُ صَغِيْرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاّ أَحْصَاهَا ([الكهف: 18/ 49] ([24]) ".
والتفجع ـ كما يقول ابن منظور ـ في فجع. والفجيعة: الرزية الموجعة بما يَكْرم، وفجعته المصيبة: أي أوجعته ([25]).
¥