تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

وغرض (التفجع) كما يُفهم من استنتاج ابن فارس، هو بالنظر إلى حال الكافرين، لا بالنظر إلى حال المؤمنين، لأن ثمة بوناً شاسعاً بين الحالتين؛ فالفئة الأولى ترى فيه نوعاً من الفاجعة أو الكارثة في كونه قادراً على إحصاء كل صغيرة وكبيرة، ولهذا كان غرض الاستفهام عند من اعتنق هذا الرأي كشيخنا ابن فارس، والزركشي ([26]) من بعده، هو (التفجع).

ولكن ثمة فئة أخرى نظرت إلى الكتاب من وجهة أخرى، هي وجهة تتعلق بحال الكتاب وعظمته وإعجازه في أن له تلك القدرة الخارقة على إحصاء كل صغيرة وكبيرة، فكان استفهامهم عنه يتجاوز تلك النظرة السطحية لمعنى الاستفهام، ليفيد معاني أخرى، هذه المعاني عند السيوطي (التفخيم) ([27])، وعند أبي حيان وأبي السعود (ت 951هـ) (التعجب) ([28])، وهناك من جمع بين معظم هذه الأغراض وزاد عليها فرأى فيها: إنكاراً وتعجباً وتفجعاً، وعلل ذلك بقوله: "الاستفهام يتضمن تعجباً من كتّاب الأعمال الذين هالهم أمره، حيث جاء محصياً كل أعمالهم صغيرها وكبيرها، فهو تعجب يفيد التهويل من أمر كان يُظن أنه لن يأتي على هذه الصورة، فلما جاء لم يكن مفر من الإقرار بالأمر إشفاقاً على أنفسهم، وتحسراً لما سيلحقهم ـ وهو مع ذلك ـ يتضمن نوعاً من الإنكار، وعلة الإنكار تتصل بمجيء الكتاب محصياً كل صغيرة وكبيرة في مقام البعث والحساب الذي كان هؤلاء الكفار ينكرونه، ويظنون عدم مجيئه بعامة وفي هذه الحال بخاصة، فالإنكار يتعلق بأمر حدث ولم يكن متوقعاً أيضاً، ويصل إشفاق الكافرين وتحسرهم إلى مستوى الفجيعة، ويرتبط ذلك بقوله تعالى:) فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ (الكهف 18/ 49، وبقوله:) لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا (الكهف 18/ 49، ولو كان الاستفهام على لسان المؤمنين لكان له دلالة أخرى؛ فمتعلقات الجملة توجه الدلالة وتضبطها وتقيدها" ([29]).

4 ـ التبكيت:

ويدل على خروج الاستفهام عن أصل وضعه إلى معنى (التبكيت) بقوله: "ويكون استخباراً، والمعنى تبكيت نحو:) أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ ([المائدة: 5/ 116]، تبكيت للنصارى فيما ادعوه" ([30]).

وابن فارس بإفراده لهذا الغرض، يُفهم منه أنه يُفرق بين التبكيت والتوبيخ، وهو بهذا محق؛ لأن المعنى اللغوي للتبكيت، وإن أفاد ما أفاد التوبيخ: التقريع والتعنيف، غير أن التبكيت يُفهم منه الحِجاج، يقول ابن منظور: "وبكته بالحجة، أي غلبه" ([31])، و"لعل التبكيت أعلى درجة من التوبيخ، فهو توبيخ، وتقريع وتعنيف واستنكار" ([32]).

وما ذهب إليه ابن فارس من أن الاستفهام أفاد التبكيت وافقه عليه الزركشي ([33])، ونقل عنه هذا الشاهد، لكن ثمة علماء غيرهما ذهبوا مذهباً مغايراً، فرأى أبو عبيدة أنه من "باب التفهيم، وليس باستفهام عن جهل ليعلمه ... ، وإنما يراد به النهي عن ذلك، ويتهدد به" ثم ساق أمثلة اختلطت فيه معاني التهديد بالتقرير ([34]).

قال القرطبي (ت 671 هـ) إنّه "توبيخ لمن ادعى ذلك عليه، ليكون إنكاره بعد السؤال أبلغ من التكذيب، وأشد في التوبيخ والتقريع" ([35]). أما المرادي فذهب إلى أنه للتقرير ([36]).

وهكذا نلحظ أن الآراء تتباين، لكن يبقى لرأي ابن فارس بعد دقيق؛ ذلك لأنه أدرك أن الاستفهام وإن كان موجهاً إلى سيدنا عيسى عليه السلام، إلا أنه لا يعنيه؛ لأنه ـ عز شأنه ـ يعلم أن هذا القول لم يقع منه، بدليل قوله عليه السلام:) سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ ([المائدة: 5/ 116]، كما أن النصارى يعلمون أنه لم يقله، لكنه أراد من هذا الاستفهام أن يكون تبكياً لهم، ليعلموا أنهم المراد بذلك.

وثمة مسألة بلاغية تؤكد أن ما ذهب إليه ابن فارس من أن الاستفهام أفاد تبكيتاً، ولم يكن استفهاماً محضاً، أو نهياً أو تفهيماً كما قال أبو عبيدة، أو تقريراً كما ذهب المرادي هي أن "إيلاء الاستفهام الاسم، ومجيء الفعل بعده دلالة على صدور الفعل في الوجود، لكن وقع الاستفهام عن النسبة، سواء أكان هذا الفعل الواقع صادراً عن المخاطب أم ليس بصادر عنه، وفي هذا يقول عبد القاهر: "إذا بدأت بالفعل، فقلت: (أفعلت؟) كان الشك في الفعل نفسه، وكان غرضك من استفهامك أن تعلم وجوده. وإذا قلت (أأنت فعلت؟) فبدأت بالاسم كان الشك في الفاعل من هو؟، وكان التردد فيه ... ومثال ذلك أنك

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير