تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

والثانية: مرحلة طلب العلم في كلية دار العلوم.

وإن لم يكن هناك فرق كبير واضح بين المرحلتين، فإن هذا التقسيم التاريخي يمكن أن يفيد في فهم منطلقات الشاعر، والأسس الفكرية التي بنى عليها قصائده التي لم تتمايز فنيًا على مستوى المرحلتين، مع الأخذ في الاعتبار أن نهاية المرحلة الأولى تزامنت تقريبًا مع قيام ثورة يوليو.

المرحلة الأولى:

ويتضح فيها فنيًا الاهتمام الشديد بغرابة اللغة، غير المستخدمة، في نوع من محاولة التأكيد على سيطرته على هذه اللغة، وكذلك في ناتج واضح للتأثر بالقراءات التراثية المتعددة. وهو ما أدى إلى أن تكون اللغة في حد ذاتها هدفًا من الكتابة في بعض الأحيان، خاصة إذا لاحظنا محاولات الشاعر الدائمة للبحث عن هوية تراثية، الأمر الذي تمثل في اعتماده على الأغراض التقليدية للشعر العربي.

إن غرابة اللفظ، نعني بها هنا استخدامه لألفاظ شاعت في الجاهلية، وشعرها، وقل استخدامها بل اندثر أحيانًا. يقول:

إذا ما جن ليلكم اجتمعتم**وقد بسط الهناء لكم سبيله

إلى أن تقطعوا في اللهو شطرًا**من الليل الذي أرخى سدوله

وهنا نلاحظ أن الشاعر لم يستخدم فقط اللفظ الجاهلي "سدوله" بل إنه تجاوز في ذلك استخدام المعنى الذي ابتدعه امرؤ القيس كاملاً حين قال:

وليلٍ كموج البحر أرخى سُدُولَه**عليَّ بأنواع الهموم لِيَبتلي

ونلاحظ أن هذه السمة تتواتر في القصائد المكتوبة قبل عام 1953، في هذه الفترة لم يكن هاشم الرفاعي قد أتم السابعة عشرة من عمره، كما تتواتر في القصائد التي كتبها، في مناسبات دينية. يقول، في ذكرى المولد النبوي عام 1952:

أولئك قوم عظّم الله أجرهم**فما وجدوا أشهى من الأجر مطلبًا

تزلزل ملك الروم تحت سيوفهم**وخرت بلاد الفرس من وطأة الشبا

(والشبًا جمع شَبَاة وهي حد كل شيء)

ويقول في القصيدة ذاتها:

فقوض عرش البغي في مصر وانثنى**يريد بنا من حندس الذل مهربًا

(والحِنْدِس: هو الليل شديد الظلمة)

إن تكرار هذه الظاهرة في كثير من قصائد هذه الفترة في حياة هاشم الرفاعي يجعل منها سمة، تشير بشيء غير قليل إلى تأثر شاعرنا بالمناخ الصوفي الذي تربى فيه، وبقراءاته التراثية.

ويمكن أن نضيف إليها نزعته الحماسية المتأثرة بحداثة السن، إضافة إلى رؤيته لكل الأمور السياسية والاجتماعية على أساس ديني وأخلاقي؛ ولعل هذا ما يميز رؤية وإبداع هاشم الرفاعي عمومًا.

المرحلة الثاني:

في المرحلة الثانية اتجه هاشم الرفاعي إلى دار العلوم ودرس الأدب العربي والنقد على يد صفوة ممن أسسوا لهذه العلوم في مصر، ومنهم د. محمد غنيمي هلال، ود. أحمد الحوفي، والأستاذ علي الجندي، ود. كمال بشر، كما ينص في مذكراته، كما أن هذه الفترة قد توازت مع النواتج القومية لثورة يوليو وارتفاع النبرة الواقعية في الأدب، وهنا تخلى شاعرنا عن كثير من إغراقه في الأشكال التراثية، ليتجه إلى أشكال جديدة معبرة عن واقعه حسبما يراه، وكان ذلك على ثلاثة محاور:

* فمن حيث الألفاظ اتجه إلى الألفاظ السهلة والشائعة بين العامة، بما يعني إضفاء روح شعرية جمالية، مع عدم إهدار صحة اللغة واستقامتها كشرط أساسي للإبداع الشعري.

* ومن حيث الأوزان بدأ الشاعر في الاتجاه إلى التخلي عن الأشكال الخليلية للعروض القديم، محاولاً استخدام أنماط متباينة موسيقيًا في القصيدة الواحدة، لكن مع عدم نفي العروض الخليلية تمامًا، وهو ما أدى إلى ظهور الرباعيات، والثنائيات، والقصائد التي تقترب موسيقيًا من شكل الموشح الأندلسي.

* ومن حيث الموضوعات فإن الشاعر قد بدأ جزئيًا في التخلي عن الأغراض القديمة في محاولة منه للاقتراب من نبض الشارع، وبدا مسايرًا للقضايا السياسية في العالم العربي كله، وهو ما يجعله يفرد العديد من قصائده لثورة الجزائر والسودان ونضال الشام عمومًا، بخلاف مسايرته للأحداث السياسية المهمة في مصر مثل تأميم قناة السويس، والجلاء ... إلخ.

ومن الواضح أنه لا يمكن الفصل تمامًا بين المرحلتين، نظرًا لقصر الفترة الزمنية التي عاشها الشاعر شاعرًا من ناحية؛ ولأن سمات المرحلتين تتداخل دائمًا، وإنما كان التميز بينهما على أساس شيوع سمة ما في إحدى المرحلتين أكثر من الأخرى.

شعريته .. الوسام الأكبر

وعلى امتداد المرحلتين تعد أهم الروافد التي أثرت شاعرنا وأثّرت فيه ملخصة في اتجاه أسرته الديني، وقربه من مواقع الأحداث ومراكزها، يضاف إلى ذلك افتتانه منذ صغره بالريف المصري ذي الطبيعة الفطرية الأصيلة التي تجعل المتأمل بها قريبًا من لمس جوهر الأشياء بخفة ظل لا يتمتع بها إلا الفلاح المصري الساخر الأسيان في آن واحد.

ويمكن أن نضيف إلى ذلك حبه لجلسات شاعر الربابة، الذي ظهر في حفظه للسيرة الهلالية وسيرة "عنترة بن شداد"، وهو لم يزل بعدُ ابن عشر سنوات، وأهم هذه الروافد هو إتمامه لحفظ القرآن الكريم في سن ثماني سنوات، وهو ما أهله ليكون ذا لغة سليمة، مستقيمة، وإحساس مرهف بجماليات اللغة.

ولعل قصر حياة الشاعر -حيث توفي على يد خصومه السياسيين في الرابعة والعشرين من عمره- هو ما جعل الأسى يشتد حين مقتله، فيصفه شيوخ الأدب والشعر في عصره بصفات لا تستقيم إلا لشاعر حقيقي، ويبقى وسامه الأكبر هو شاعريته التي استطاعت بشفافيتها أن تنفذ إلى المستقبل حين عالجت الواقع، فأشهر قصائد هاشم الرفاعي هي ملحمة "رسالة في ليلة التنفيذ" التي يتحدث فيها على لسان مناضل عربي ضد الاستعمار يحكم عليه بالإعدام لنضاله، وهي كذلك في مجمل معانيها تصف ما يمكن أن يقوله الشاعر عن نفسه بعد استشهاده

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير