["وداع المتنبي لأبي شجاع"]
ـ[أحاول أن]ــــــــ[18 - 01 - 2007, 02:10 م]ـ
:::
قراءة في نص
أثارت قصيدة "حتام نحن نساري الليل في الظلم " حماسي لأن أقرأ لكم نصا كما فهمته فهما بسيطا بعيدا عن أيدلوجيات النقد الحديث ,,فهم قارئ عادي ٍّ عَلِقَ هذا النص بخلايا ذاكرته منذ سنوات ..
قصيدة المتنبي في وداع عضد الدولة: أبوشجاع
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قيل: (هي آخر ما قال المتنبي) هذه مقدمة كافية للتشويق للقصيدة. فكثيرا ما يخلد الناس للعظماء آخر المواقف وآخر الأقوال. . ليس هذا فقط ما يميزها ولكنها قصيدة وداع وهذه ميزة أخرى!
لأن الوداع كالرثاء يقال فيه الشعر صادقا لا رغبة ولا رهبة.
يمدح أبا شجاع فيقول:
فدى ً لك من يُقصِّر عن فداكا فما ملك ٌ إذا إلا فداكا
ولو قلنا فدى لك من يساوي دعونا بالبقاء لمن قلاكا
ويستمر في مدحه الجزل حتى يصف وداعه له وهو الحبيب الذي وجد عنده السؤدد والرفعةولكن الوداع كان الأعذب:
أروح وقد ختمت على فؤادي بحبك أن يحل به سواكا
كم من أرصفة نقشت على الموانيء عهودا بعدم النسيان بعد السفر؟!
وكم من مناديل بللت على النوافذ مواثيق الوفاء بعد الرحيل؟! وأصبحت مع الأيام مجرد .. ذكرى ..
إلا المتنبي فقد عاهد ووفى بألا يحل أحد محل أبي شجاع ليس وفاء كله ولكن هذا لقدرة الله عز وجل فلم تمهله التجارب كثيرا ورحل قبل أن ينقض هذا العهد.
وقد حمَّلتني شكرا طويلا ثقيلا لا أطيق به حراكا
أحاذر أن يشق على المطايا فلا تمشي به إلا سواكا
يمكن أن نشكر بشدة .. كثيرا .. طويلا .. لكن المدهش أن يكون الشكر ثقيلا! حتى أنه يشفق على الخيول ألا تستطيع المسير لثقل ماتحمل أفئدة فرسانها.
لعل الله يجعله رحيلا يعين على الإقامة في ذراكا
هو رحيل ٌُ لا يخلو من رجاء ووداع على أمل اللقاء.
ولو أني استطعت خفضت طرفي فلم أبصربه حتى أراكا
إذن يعترف أنه لا يستطيع ولا يبالغ كما يفعل دائما لأنه أراد أن يؤطِّر نصه بالصدق ويسطِّر شعره بالعشق.في لحظة وداع صادقة.
أتتركني وعين الشمس نعلي فتقطع مشيتي فيه الشراكا؟؟
أيُّ سؤال ٍ صعب ٍ هذا؟! المتنبي هو المسافر فكيف يقول تتركني؟ ما أقصر اللغة التي تفسر هذا السؤال على أنه مجرد استفهام استنكاري! هو استنكار للاستفهام برمته. أتتركني وقد رفعتني عاليا حتى أصبحت عين الشمس نعلا تحت قدمي سيسقط في لحظة مسيري بعيدا عنك؟ أتتركني .. يقولها بمنتهى التوسل والاستجداء والتحسر والكبرياء. هذا الألم الآن فكيف يكون في المستقبل:
أرى أسفي وما سرنا بعيدا فكيف إذا اغتدى السير ابتراكا
إذا التوديع أعرض قال قلبي عليك الصمت .... لا صاحبت فاكا!
لقد كره لحظات الوداع حتى أنه يدعو على نفسه إذا لم تلتزم الصمت بألا تقول شعرا قط واستجاب الله عز وجل فلم ولن يقال بعده شعرا كهذا.
ولا يتخلى المتنبي عن الحكمة:
وفي الأحباب مختص ٌُ بوجدٍ وآخر يدعي معه اشتراكا
وهذا تقسيم فلسفي للمحبين لا يجيده إلا القامات الشاهقة في التجارب الإنسانية كالمتنبي.
فهم فئتان من النظرة الأولى: محبون صادقون وآخرون مدَّعون.
ولا يكشف الحقائق ويرفع الحجب الرقائق مثل الوداع:
إذا اشتبهت دموع في خدود تبيَّن من بكى ممن تباكى
وحدها دموع الوداع لها لون وتدفق وملوحة مختلفة.دموع المتباكي تنزل من مكان دني قريب ..... ودموع الباكي تنبع من غور قصي بعيد هي سائل غيرشفاف ضارب ٌ للحمرة لايرى حمرته إلا أحداق المكلومين ولا يقيس ملوحته إلاأشواق المجروحين .... الذين تتساوى عندهم الطرق بعد الوداع:
فزُل يا بُعد عن أيدي ركاب ٍ لها وقع الأسنة في حشاكا
وأيا شئت ِ يا طرقي فكوني أذاة أو نجاة أو هلاكا
قيل إن أبا شجاع قال: لقد خفت عليه منذ جعل النجاة بين الأذاة والهلاك.ونقول بل ربما الإلهام بقرب الأجل!
ومن أعتاض عنك إذا افترقنا؟؟ وكل الناس زور ٌ ما خلاكا
أنت الحقيقة الوحيدة بين الأوهام. وكثيرا ما يسلو المحب عندما يأتيه البديل الأفضل هو يرضى بالرحيل ولكن يطلب بديلا يوازي أبا "شجاع ". ما أصعب طلبات المتنبي!
ويعطينا في النهاية نظرة إجمالية على حياته وملخص لما سبق من تجاربه: مع الحب .. مع الطموح .. مع الجحود .. مع الخيانة .. مع الفشل الملازم له وقسوة الواقع عليه مع وفائه وعلو نفسه وسمو نظره
عاد بعد كل هذا يحمل: لاشيء.
لا شيء سوى الهواء والحكمة الخالدة:
وما أنا غير سهم في هواء يعود ولم يجد فيه امتساكا
ما الذي يمسكه السهم من اختراقه لآفاق واسعة .. وفضاءات شاسعة؟
هذه قصيدة وداع ٍ هي الأبهى .... و ملحمة حزن هي الأروع، لأنها ختمت بحياة صاحبها بعد حروب ومعارك بين الروح والطموح.هي أسطر ٌ للأسطورة التي أرادت الملك في حياتها فحصلت على ملك القلوب بعد مماتها .. ملكا لا ينازعه فيه أحد ولا يرثه ولي عهد ..
¥