تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

[إعادة إعمار الثقافة]

ـ[أحمد الغنام]ــــــــ[23 - 12 - 2006, 01:05 م]ـ

[إعادة إعمار الثقافة]

محمد زكي إبراهيم

باحث

إذا أردنا أن نختبر التحولات التي أصابت المجتمعات العربية في سنواتها الأخيرة، فإن علينا أن نسأل أنفسنا هذا السؤال: هل يحتفي الشبان العرب بالشعر مثلما كان يفعل آباؤهم قبل أربعين عاماً؟ وإذا كان الجواب بالنفي فما الذي جعلهم يتغيرون إلي هذا الحد: أليس العرب أمة الشعر والشعراء منذ أقدم العصور؟ فكيف يتخلون عن أهم موروثاتهم الثقافية؟

إن هذا الموقف الجديد يذكرنا بما قاله نزار قباني قبل وفاته بمدة قصيرة عن الشعر في القرن الحادي والعشرين. فقد أعلن بجلاء أن الشبان العرب لن يقرأوا الشعر، وسيطرحون ديوان المتنبي أرضاً، ويستبدلونه بالفايننشل تايمز. فالاقتصاد سيكون أكثر أهمية في حياتهم اليومية. وما لم يقله نزار صراحة أن المال هو الذي سيغير حياتهم، التي عجز الشعر أن يفعل لها شيئاً.

المشكلة أننا ما نزال حتي هذه اللحظة نصر علي أن الثقافة تعني الأدب والموسيقي والمسرح والفنون التشكيلية والبصرية، ونغفل كل ما عدا ذلك من أدوات التغيير. فلا نلتفت إلي ما يجري حولنا من تحولات اقتصادية، ولا نعي خطر ما يطرح في أسواقنا من منتجات صناعية، وكأننا نعيش في عالم آخر لا تربطنا به صلة. وسبب ذلك هو غموض مصطلح الثقافة في لغتنا العربية وتجييره لصالح أشكال تعبيرية محض. وفي ذلك ما فيه من غمط لحقوق الغير، واستخفاف بإسهاماتهم الفكرية. ولم يأت هذا الفهم من فراغ ولكنه جاء بسبب إمساك الأدباء والفنانين العرب في النصف الأول من القرن العشرين بمقود الثقافة، واضطلاعهم بدور الريادة للنهضة العربية. هذا الدور لم يستطع الآخرون ــ الذين لم يكونوا موجودين أصلاً ــ أن يتخطوه. ومع بوادر نشوء بنية تحتية، مثل السكك الحديد وطرق المواصلات والطاقة الكهربائية، وظهور حراك اجتماعي نشيط، خسر هؤلاء مواقعهم شيئاً فشيئاً، وبات عليهم أن يكتفوا بإضفاء طابع روحي علي عملية البناء التي تصاعدت ببطء منذ ذلك الحين. ويتركوا مهمة صنع الثقافة إلي سواهم من الصناعيين والتجار والحرفيين ورجال الأعمال الناشئين، لأنهم هم الذين يغيرون المجتمع ويقفزون به قفزات سريعة إلي الأمام. فليس شكسبير أو شيلي أو بايرون أو البيتلز هم من صنعوا الثقافة الانكليزية، وإنما قامت بذلك القوانين الصارمة ومصانع النسيج وسيارات الرولزرايس والملكية الدستورية والسفن العملاقة التي أتاحت لبريطانيا السيطرة علي بقاع شاسعة من العالم. وليست الثقافة الأميركية من صنع همنغواي ومادونا ومايكل جاكسون، وإنما صنعتها مطاعم الوجبات السريعة والهمبرغر وسيارات الجي أم والاستثمارات المالية الضخمة ووكالة ناسا الفضائية. ولم يحدث أن قام الشبان المهووسون بكراهية الولايات المتحدة في بلاد المسلمين بتمزيق كتب همنغواي علي رؤوس الأشهاد كما حدث مع ابن رشد يوماً، ولكنهم قاموا بالهجوم مراراً علي مطاعم المكدونالدز لأنها تمثل بنظرهم الامتداد الطبيعي للثقافة الأميركية.

إننا ما نزال حتي هذه اللحظة نخجل من أن نعد تجار الشورجة وجميلة والسنك، أو صناعيي بوب الشام والشيخ عمر، أو مضاربي بورصة شارع الكفاح، ممثلين حقيقيين للثقافة العراقية. وكنا نشتمهم في العهد السابق بمناسبة أو بدون مناسبة، ونعدهم خارجين علي الإجماع لأنهم يكسبون مالاً وفيراً. وكأنما كتب علي العراقيين أن يظلوا فقراء للأبد. وكأن مهمة رجال الأعمال أن يخسروا أموالهم باستمرار، أو كأن تجار دبي وطوكيو ونيويورك لا يحققون أرباحاً طائلة من مضارباتهم المالية. هذا الأمر هو الذي دفع رجال ذلك العهد إلي إعدام عدد من التجار الصغار ذات يوم، وإلي مطاردة الشبان العاملين في بورصة معرض بغداد وشارع الكفاح، وقتل كثيرين منهم.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير