اسقني كأساً مصردة ... إن نجم الليل قد طلعا
قد شربت الحب شرب فتىً ... لم يدع في كأسه جرعا
ثم ابتدأ أيضاً دبيس فغنى:
يقولون في البستان للعين لذةٌ ... وفي الخمر والماء الذي غير آسن
إذا شئت أن تلقى المحاسن كلها ... ففي وجه من تهوى جميع المحاسن
فغضب المسدود لما قطع عليه دبيس وقال: عن على غير هذه القافية واللحن، ثم نرجع إلى حالنا الأولى. فقال أبو عكرمة: قد أصبت.
فابتدأ المسدود فغنى:
أدعوك من قلبي إذا لم أرك ... يا غاية الطرف إذا أبصرك
قضى لك الله فسبحان من ... أحلك القلب ومن قدرك
لست بناسيك على حالةٍ ... يا ليت ما تذكرني أذكرك
صيرني الله على ما أرى ... منك من الهجر كما صيرك
قال: فقال زنين: وأنا فلا بد أن أسلك سبيلكما. قال أبو عكرمة: ثم التفت إلي، فقال: ما ترى؟ فقلت: أحسنت والله. فابتدأ يغني:
يا هائم القلب عاص من عذلك ... ما نلت ممن هويته أملك
دعاك داعي الهوى بخدعته ... حتى إذا ما أجبته خذلك
فاحتل لداء الهوى وسطوته ... إنك إن لم تداوه قتلك
ثم ابتدأ المسدود يغني:
شققت جيبي عليك شقاً ... وما لجيبي أردت شقا
أردت قلبي فصادفته ... يداي بالجيب قد توقى
مالك رقى أبيت عتقي ... لولاك ما كنت مسترقا
ثم سكت وغنى زنين:
قد ذبت شوقاً ومت عشقاً ... يا زفرات المحب رفقا
ثكلت نفسي وزرت رمسي ... إن كنت للهجر مستحقا
ثم سكت وغنى دبيس:
ظمئت شوقاً وبحر عشقي ... يفيض عذاباً ولست أسقى
أنا الذي صرت من غرامي ... على فراش السقام ملقى
فمن زفير ومن شهيق ... ومن دموع تجود سبقا
ثم ابتدأ المسدود فغنى:
ماذا على نجل العيون لو أنهم ... أوموا إليك فسلموا أو عرجوا
أمنوا مقاساة الهموم وأيقنوا ... أن المحب إلى الأحبة يدلج
ثم سكت وغنى دبيس:
هيا فقد بدأ الصباح الأبلج ... قد ضم مشبهة الغزال الهودج
بانوا ولم أقض اللبانة منهم ... وكذا الكريم إذا تصابى يلهج
ثم سكت وغنى زنين:
السحر والغنج في عينيك والدعج ... والشمس والبدر في خديك والضرج
الدر ثغرك لولا أن ذا برد ... والحبر صدغك لولا أن ذا سبج
أنضجت قلبي ولو أن الورى لقيت ... قلوبهم منك ما لاقيت ما لهجوا
ثم سكت وابتدأ المسدود فغنى:
يا صاحب المقل المراضٍ ... انظر إلي بعين راض
إن تجفني متعمداً ... لتذيقني جرع الحياض
فلطالما أمكنتني ... منك المراشف عن تراض
ثم سكت وغنى زنين:
هائم مدنف من الإعراض ... لا سبيل له إلى الإغماض
موثق النوم مطلق الدمع ما يع ... رف ملجاً من الحتوف القواضي
ما برى جسمه سوى لحظاتٍ ... أمرضته من العيون المراض
ثم سكت وغنى دبيس:
كن ساخطاً واظهر بأنك راضي ... لا تبدين تكره الإعراض
وانظر إلي بمقلة غضبانةٍ ... إن كنت لم تنظر بمقلة راض
وارحم جفوناً ما تجف من البكا ... في ليلةٍ مسلوبة الإغماض
واحكم فديتك بين جسمي والهوى ... فالحكم منك على الجوارح ماض
ثم ابتدأ المسدود فغنى:
يا ذا الذي حال عن العهد ... ومن براني منه بالصد
بسمرة الخال وما قد حوى ... من حمرةٍ في سالف الخد
ألا تعطف على عاشقٍ ... منفرد بالبث والوجد
ثم سكت وغنى زنين:
أظل بكتمان الهوى وكأنما ... ألاقي الذي لاقاه غيري من الوجد
فلا الدمع أطفى حرقة البين والبكا ... ولا أنا بالشكوى أنفس من جهدي
ثم سكت وغنى دبيس:
تهزأت بي لما خلوت من الوجد ... ولم ترث لي لا كان عندك ما عندي
وعبت علي الشوق والوجد والبكا ... وأنت الذي أجريت دمعي على خدي
صددت بلا جرم إليك أتيته ... أكان عجيباً لو صددت عن الصد
ألا إنني عبدٌ لطرفك خاضع ... وطرفك مولىً لا يرق على عبد
ثم غنى المسدود:
أقمت ببلدةٍ ورحلت عنها ... كلانا عند صاحبه غريب
أقل الناس في الدنيا نصيبا ... محب قد نأى عنه الحبيب
ثم سكت وغنى زنين:
خليلي ما للعاشقين قلوب ... ولا للعيون الناظرات ذنوب
فيا معشر العشاق ما أوجع الهوى ... إذا كان لا يلقى المحب حبيب
ثم سكت وغنى دبيس:
ذلت لوجهك أعين وقلوب ... بين المخافة والرجاء تذوب
يا واحد الحسن الذي لحظاته ... تدعو النفوس إلى الهوى فتجيب
من وجهه القمر المنير وقده ... غصن نضيرٌ مشرق وكثيب
ألناظريك على العيون رقيب ... أم هل لطرفك في القلوب نصيب
ثم ابتدأ المسدود فغنى:
قلق لم يزل وصبر يزول ... ورضى لم يطل وسخط يطول
لم تسل دمعتي علي من الرح ... مة حتى رأيت نفسي تسيل
جال في جسمي السقام فجسمي ... مدنف ليس فيه روح تجول
ينقضي للقتيل حول فينسى ... وأنا فيك كل يوم قتيل
ثم سكت وغنى زنين:
ويقنعني ممن أحب كتابه ... ويمنعنيه إنه لبخيل
كفى حزناً ألا أطيق وداعكم ... وقد حان مني يا ظلوم رحيل
ثم سكت وغنى دبيس:
ليس إلى تركك من حيلة ... ولا إلى الصبر لقلبي سبيل
فكيفما شئت فكن سيدي ... فإن وجدي بك وجدٌ طويل
إن كنت أزمعت على هجرنا ... فحسبنا الله ونعم الوكيل
قال أبو عكرمة: فأقبل أبو عيسى على المسدود، فقال له: عن صوتاً. فغنى:
ما حيلتي وفؤادي هائمٌ أبداً ... بعقرب الصدغ من مولاي ملسوع
لا والذي تلفت نفسي بفرقته ... فالقلب من حرق الهجران مصدوع
ما أرق العين إلا حب مبتدع ... ثوب الجمال على خديه مخلوع
قال أبو عكرمة: فوالله الذي لا إله إلا هو لقد حضرت من المجالس ما لا أحصي، ما رأيت مثل ذلك اليوم. ثم إن أبا عيسى أمر لكل واحد بجائزة وانصرفنا ولولا أن أبا عيسى قطعهم ما انقطعوا.
والسلام
¥