اذا كان من معنى الشعور اشتقاقهُ ... فما بعدهُ للمرء ِ غيرُ جنونه ِ
وقال أبو القاسم الشابي:
يا شعر ُ أنتَ فمُ الشعو ... رِ وصرخة ُ الروح ِ الكئيب ْ
وقال أحمد فارس الشدياق:
سبحان من جعلَ الشعورَ شِعارَهُ ... ولكمْ ترى من شاعر ٍ لا يشعر ُ
وقال الرصافي:
الشعرُ فنّ ٌ لا تزالُ ضروبُهُ ... تتلو الشعور َ بألسُن ِ الموسيقى
وعلى هذا يرى القيرواني (أنما سُمّيَ الشاعر شاعراً لأنه يشعر بما لا يشعر به غيره) (7).
ويرى ستدمان أنَّ (الشعر هو اللغة الخيالية الموزونة التي تعبّرُ عن المعنى الجيد والذوق والفكرة والعاطفة وعن سرّ الروح البشرية) (8).
ولهذا السبب علّق عبد الملك بن مروان على قول الراعي النميري:
أخليفةَ الرحمن ِ إنَّا معشرٌ ... حُنفاءُ نسجدُ بكرةً وأصيلا
عَرَبٌ نرى للهِ في أموالنا ... حقَّ الزكاةِ مُنزّلاً تنزيلا
قائلاً: ليس هذا شعراً، هذا شرح إسلام ٍ وقراءة آية ٍ (9).
ذلك أنّ الأبيات لا تحمل سوى الوزن والقافية، وليس ذلك شأن الشعر، قال أيليا أبو ماضي:
لستَ منِّي إنْ حسبتَ الـ ... ـشعرَ ألفاظاً ووزنا
خالفتْ دربُكَ دربي ... وانقضى ما كانَ منَّا
فانطلقْ عنِّي لئلّا ... تقتني همَّاً وحزنا
واتَّخذْ غيري رفيقاً ... وسوى دنيايَ مغنى (10)
غيرَ أنَّ الكلام إذا كان موزوناً ومقفى ويطفح بالمشاعر والعواطف والأحاسيس وذو معنىً حسن ٍ، ولكن لفظه باردٌ فاترٌ، كانَ مستهجناً وملفوظاً ومذموماً ومردوداً لأنّ الألفاظ من الكلام بمنزلة الثياب من الأبدان تزيدُ من حسن المليح، وتقللُ من دمامة القبيح، والكلام المنحطُّ اللفظ كالإنسان الذي عليه ملابسٌ رثّةٌ، ومثال ذلك قول ابي العتاهية في رثاء سعيد بن وهب:
ماتَ والله ِ سعيدُ بنُ وهب ِ ... رحمَ اللهُ سعيدَ بنَ وهب ِ
يا أبا عثمانَ أبكيتَ عيني ... يا أبا عثمانَ أوجعتَ قلبي
أو كقوله في عتبة وهي جاريةٌ أحبّها:
ألا يا عُتبةَ الساعهْ ... أموتُ الساعةَ الساعهْ
مما أثارَ ثائرةَ الأدباء والنقاد عليه فطعنوا في شعره وعابوه، وقد ذكر المرزباني أقوال الناس في شعر أبي العتاهية وعيبهم عليه (11).
ومن أمثلة هذه التفاهات والسخافات التي لا تمت إلى الشعر بصلة قول أبي نواس:
فعصا نداهُ براحتي ... أعلو بِها الإفلاس قرعا
وعليّ سورٌ مانع ٌ ... منْ جودهِ إنْ خفتُ كسعا
فلوَ أنَّ دهراً رابني ... لصفعتهُ بالكفّ صفعا (12)
فهذا الشعر الغثّ مما يمله الناظر وتكرهه الآذان ويسأم منه السامع والقارئ ويضيّع وقت الكاتب فهو بيّن الإنحطاط واضحُ الركاكةَ. لذلك نبّه الأدباء والنقاد إلى أهمية الألفاظ الشعرية وأولوها عناية خاصة، ودعوا إلى تزيينها وتحسينها وتجويدها لتكون أوقع في النفوس وأمضّ في الدلالة والقصد. وسنتحدث مفصلاً عن الألفاظ الشعرية في موضوع لاحق.
ولأجل ذلك كله عدّ الأدباء والنقاد الشعر صناعةً لإحتياجه إلى تنميق الكلام وتجويد الألفاظ وتهذيبها والوقوف عند كلّ بيتٍ يُقال وتدقيق النظر فيه واطّراح الغثّ الرديء من الكلام، فالجاحظ يرى (أنّما الشعر صناعة وضربٌ من النسج وجنسٌ من التصوير) (13)، ويرى الأصمعيّ أنّ زهير بن أبي سُلمى والحُطيئة عبيد الشعر (14)، لأنّهما يبالغان في صناعته وغربلته. وقالوا عن شعر النابغة الذبياني: (مطرفٌ بآلافٍ وخمارٌ بوافٍ) (15).
في حين عرّف شيلي الشعر على أنّه (خيرُ كلماتٍ صُفّت في خير نظام ٍ) (16)، ففي قوله خير كلماتٍ إشارةً الى إنتقاء الألفاظ وتحسينها.
بيد أنَّ الأمر لا يتوقف عند هذا الحدّ، لأنّ الناس يعيبون قول أبي نواس في مدح الرشيد:
وأخفت أهل الشركِ حتّى أنّهُ ... لتخافُكَ النطفُ التي لَمْ تُخلق ِ (17)
مع العلم أنّ العناصر التي ذكرناها (الوزن، القافية، المشاعر والأحاسيس، حلاوة الألفاظ) متوفرةٌ فيه وذلك لأنّه افتقد لعنصرٍ مهمّ من عناصر التعبير الشعري ألا وهو الصدق في التعبير.
فصريع الغواني مسلم بن الوليد يرى أنّ أبا نواس في بيته هذا (يصف المخلوقين بصفة الخالق) (18) ورووا أنّ العتابي الشاعر قال لأبي نواس: أما استحييتَ من الله بقولك وأخفت ..... ألخ، وقد عاب غيره على أبي نواس مدحته هذه (19).
¥