ولا يخفى أن أبا تمام قد جعل الأفشين منقاداً للطغيان، والكفر، مسلوب الإرادة له، وفي ذلك إنقاص من قيمته حتى بكفره، وفي ذلك إبعاد للتصوير الذي يبيّن كفر الأفشين، هذه خدمة أفادها التناص اللغوي. وسوف نرى أبا تمّام يؤكد هذا المعنى ويوظف معظم تناصاته بهدف تعميقه وتعميمه، يقول:
كَمِ نِعمَةٍ للهِ كانَت عِندَهُ= فَكَأنَّها في غُربَةٍ وَإسارِ
كُسِيَت سَبائِبَ لومِهِ فَتَضاءَلت= كَتَضاؤُلِ الحَسناءِ في الأطمارِ
وهذان البيتان قريبان من قوله تعالى:] يعرفون نعمة الله ثمّ ينكرونها وأكثرهم الكافرون [(23) فالنعم التي كانت عند الأفشين كثيرة، غير أنها كانت غريبة وأسيرة عنده، لأنه ينكر كونها عنده، ويغلّفها بلؤمه، فتتضاءل كالفتاة الحسناء التي يخفي حسنها وجمالها ارتداؤها الأطمار (الملابس الباليه)، إن هذه الصورة صورة إنكار النعمة التي وردت في الآية الكريمة، وما يريده التناص والتصوير هو بيان المدى الذي كان يغرق فيه الأفشين من إنكار نعم الله، ونعم الخليفة عليه. وهذه النعم عند الأفشين:
مَوتورَةٌ طَلَبَ الإِلَهُ بثَأرِها= وَكَفى برَبِّ الثَأرِ مُدرِك ثارَِ
فالله ـ في هذا البيت ـ هو الذي يطلب من المعتصم أن يثأر للنعم التي ينكرها الأفشين، وفي ذلك إضفاء للقدسية على مقتل الأفشين، وسوف نرى أبا تمّام يرسم صورة الأفشين منافقاً، ويستثمر طاقته الثقافيّة في ذلك، يقول:
صادى أميرَ المُؤمنينَ بزَبرَجٍ= في طَيِّهِ حُمهُ الشُجاعِ الصاري
في هذا البيت يصوّر الأفشين (زبرجا)، غيوماً خادعة ملوّنة، وفي سريرته أفعى تتربّص بالخليفة، وهذا قريب من قوله تعالى:] رأيت المنافقين يصدّون عنك صدوداً [(24)، فالصورة التي يرسمها صورة منافق، والمنافقون في الآية الكريمة] يصدّون صدوداً [وفي البيت نرى الأفشين (صادى) أمير المؤمنين، فالأصوات (ص. د.د.) مستدعاة من (صدد)، وعلى ذلك نرى أن صورة المنافق التي يرسمها أبو تمّام للأفشين مستمدة من صورة المنافق في القرآن الكريم، ولعل تساؤلاً يلحّ الآن: لم كلّ هذا الإلحاح على تصوير عمل الخليفة تصويراً دينيّاً؟
يقول أبو تمّام مستغرقاً في صورة المنافق:
مَكراً بَنى رُكنَيهِ إلاّ اَنَّهُ= وَطّدَ الأساسَ عَلى شَفيرٍ هارِ
ومن يقرأ هذا البيت يقفز إلى ذهنه قوله تعالى:] أفمن أسس بنيانَه على تقوى من الله ورضوان خيرٌ أم من أسّس بنيانه على شفا جرف هار فانهار به في نار جهنّم والله لا يهدي القوم الظالمين [(25) وهذه الآية الكريمة قد سبقت بآيات تتحدّث عن مسجد الضّرار الذي أسسه ثلة من المنافقين يريدون من وراء عملهم شق وحدة المسلمين، وتفريق كلمتهم، حتى نزل الوحي مبلغاً عن رب العزّة ما يخفي المنافقون في أنفسهم من وراء هذا العمل، وبعد أن نتبيّن النص الغائب، فإننا نعرف معنى التناص معه، إنه تأكيد لصورة المنافق ـ المنافقين ـ واستغراق فيها، وإذا أردنا المقارنة بين النصّين فإننا نجد أفعال الأفشين التي قام بها في خدمة الدولة والخليفة بمثابة مسجد الضرار، عمل جيد أريد به الباطل، ونجد رد الخليفة على عمل الأفشين يقابل ردّ الرسول على المنافقين، إذ يقول أبو تمام في ردّ الخليفة على أعمال الأفشين:
حَتّى إذا ما اللهُ شَقَّ ضَميرَهُ= عَن مُستَكِنِّ الكُفرِ وَالإِصرارِ
وَنَحا لِهَذا الدينِ شَفرَتَهُ اِنثَنى= وَالحَقُّ مِنهُ قانِئُ الأَظفارِ
وهذان البيتان إذ يستمرّان في التناص مع قصّة مسجد الضرار، ونزول الوحي، والكشف عمّا بسريرة الأنفس المتربصة بالإسلام ووحدة المسلمين، فإنهما يتناصّان مع قوله تعالى:] بل نقذف بالحق على الباطل، فيدمغه فإذا هو زاهق ولكم الويل مما تصفون [(26) وغير بعيد التناص اللغوي مع هذه الآية في صورة "والحق منه قانئ الأظفار" التي تثير في الذهن صورة "فيدمغه"، غير أن ذلك يتجاوز التناص اللغوي إلى التناص المعنوي، فيظهر ما يفعله المعتصم بالأفشين كأنه غضب من الله.
يتبع ...
ـ[أحمد الغنام]ــــــــ[31 - 05 - 2007, 08:41 م]ـ
التناص في شعر أبي تمام/2
وفي الأبيات التالية نجد استثماراً لقصّة أخرى من قصص المنافقين، يقول:
هَذا النَبيُّ وَكانَ صَفوَةَ رَبِّهِ= مِن بَينِ بادٍ في الأنامِ وَقارِ
قد خَصَّ مِن أهلِ النِفاقِ عِصابَة= وَهُمُ أَشَدُّ أذىً مِنَ الكُفّارِ
¥