ليتحدّثا بخبر لا يريدان ذيوعه، وجلودهم لباس نسجته رياح السموم، مسودّة كأنها دروع من القار الأسود، والخشب الذي صلبوا عليه خيلٌ، لكنّها خيل من صنع النجار، يركبونها صباح مساء، لا يفارقون مكانهم ومن ينظر إليهم يخالهم مستعدين للسفر، ثم بعد هذه الصورة الساخرة يطرح الأسباب التي أودت بهم، فقد كادوا النبوّة والهدى، مما قطع أعناقهم، ثم إنهم خرجوا على طاعة أمير المؤمنين فقصرت أعمارهم.
وما بقي من القصيدة لا يحتوي على تناص له قيمته، ففي هذا الجزء من القصيدة يوجه النص إلى الخليفة بخطاب مباشر أردت إثباته هنا حتى تكون الدراسة قد شملت النص كاملاً، يقول:
فَاشِدُد بهارونَ الخَلافة إنَّهُ= سَكَنٌ لِوَحشَتِها وَدارُ قَرارِ
بفَتى بَني العَبّاسِ وَالقَمَرِ الَّذِي= حَفَّتْهُ أنجُمُ يَعرُبٍ وَنِزارِ
كَرَمُ العُمومَةِ وَالخُؤولَةِ مَجَّهُ سَلَفاً قُرَيشٍ فيهِ وَالأنصارِ
هُوَ نَوءُ يُمنٍ فِيهِمُ وَسَعادَةٍ= وَسِراجُ لَيلٍ فيهِمُ وَنَهارُ
فَاقمَع شَياطينَ النِفاقٍ بمُهتّدٍ= ترضَى البَرِيَّةُ هَديَهُ وَالبارِي
لِيَسيرَ في الآفاقِ سيرَةَ رَأفَةٍ= وَيَسوسَها بسَكينَةٍ وَوَقارِ
فَالصينُ مَنظومٌ بأندَلُسٍ إلى= حيطان روميَّةٍ فَمُلكِ ذَمارِ
وَلَقَدْ عَلِمتُ بأنَّ ذَلكَ مِعصَمٌ= ما كُنتَ تَتَرُكُهُ بغَيرِ سِوارِ
فَالأرضُ دارٌ أقفَرَت ما لم يَكُن= مِن هاشِمٍ رَبٌّّ لِتِلكَ الدارِ
سُوَرُ القُران الغُرُّ فيكُم أُنزِلَت= وَلَكُم تُصاغُ محاسِنُ الأشعارِ
ففي هذه اللوحة كما هو واضح، يطلب الشاعر من الخليفة أن يجعل ابنه وليّاً للعهد، فهو العربي الصادق، الذي مجّ سلف قريش والأنصار، ثم يمدح الواثق (هارون) خاتماً القصيدة بمدح آل هاشم.
الخلاصة
تناص التسويغ
إذا كنا في ما سبق قد بيّنّا أن تناصات أبي تمام في هذا النص قد جاءت مسوّغة؛ لأنها أدت أغراضاً متعدّدة، منها الشرعية ـ وهذا أهمها ـ على فعل المعتصم، سواء أكانت شرعية دينية أم تاريخية أم أخلاقية، ومنها التلخيص، فإننا نكون قد أجبنا عن السؤال الذي يطرحه البحث حول ماهيّة التناص وجدواه لدى أبي تمام. بيد أن سؤالاً آخر قد تشكّل من خلال الدراسة، هذا السؤال هو: إذا كانت كل تلك التناصات قد جاءت لتبرّر فعلة الخليفة بقتل الأفشين فما هو دافع هذا التبرير، ولماذا كل هذا الإلحاح على إضفاء الشرعية الدينية والتاريخيّة والأخلاقية على عمل الخليفة؟
وقريب من هذا السؤال سؤالٌ آخر يطالعنا في إلحاح أبي تمام على إدانة الأفشين، وللإجابة عن هذه التساؤلات، لا بدّ من العود على بدء، فقد أوردت بعض المصادر التاريخيّة أن سبب مقتل الأفشين وشاية وسعيٌ بالسوء حصلا بينهما ـ الأفشين والخليفة ـ، ومن هنا فإننا ننفذ إلى مبرّرات التناص في هذه القصيدة التبريرية، فقد جاءت لتقضي على ما يتشكّل من ندم أو تساؤلٍ حول ذلك القتل. أمّا إلحاح أبي تمام على إدانة الأفشين، فإنه ينحى منحىً شخصيّاً؛ فأبو تمام قد مدح الأفشين في قصيدة سابقة على الأقل، وإذا قتل الخليفة الأفشين فإن أبا تمام يريد إبراء ساحته من ذلك المقتول، ويبعد ما قد يُتّهم به من علاقة بالأفشين أو ميل له، فإذا كان يعتذر عن غفلة الخليفة بالأمس في تقريب هذا المقتول، فإنه يعتذر في الوقت نفسه عن علاقة كانت ربطته سابقاً بهذا المغدور.
والإشارة الخاتمة لهذا البحث أن أبا تمام في تناصّه مع الدين والتاريخ والثقافة الحياتية والأخلاقية لم يكن اعتباطياً، ولم ترد تلك التناصات مجانياً، وإنما تضافرت مجتمعة لتشكّل الدلالة العامة في النص، بما يشبه العلامات الرمزية التي تشكّل الرسالة، وهذا هو التناص الذي يتجاوز مجرّد الاستشهاد أو الاقتباس أو غيرهما، وينفصل عمّا يمكن أن يسمّى بالأقنعة والمرايا.
الهوامش
(1) رولان بارت، أصول الخطاب النقدي، ترجمة أحمد المديني، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد، 1989، ص 107
(2) المصدر السابق، ص 108.
(3) نفسه 108.
(4) نفسه والصفحة نفسها.
(5) نفسه، 111.
(6) نفسه، والصفحة نفسها.
(7) محمد مفتاح، تحليل الخطاب الشعري، الفكر الثقافي العربي ـ بيروت، 1986، ص 123.
(8) المرجع السابق، ص 129.
(9) نفسه والصفحة نفسها.
(10) ابن رشيق القيرواني، العمدة في محاسن الشعر وآدابه، باب السرقات وما شاكلها.
(11) محمد مفتاح، مرجع سابق، وقد سبق تناول ذلك في هذا المقال.
(12) سعيد يقطين، الرواية والتراث السردي، المركز الثقافي العربي، بيروت، 1992، ص 18.
(13) رجاء عيد، النص والتناص، بحث مستخرج من مجلة علامات في النقد، نادي جدة الثقافي، جدة، المملكة العربية السعودية، ج 18، مج 5، 1990، ص 184.
(14) المرجع السابق، ص 193.
(15) رجاء عيد، مرجع سابق، ص 193.
(16) نفسه والصفحة نفسها.
(17) عبد النبي اصطيف، التناص، بحث مستخرج من مجلّة راية مؤتة، مج 2 عدد 2، كانون الأول، 1993، جامعة مؤتة، ص 53.
(18) انظر: المنتظم في تاريخ الأمم والملوك، أبو الفرج بن الجوزي، تحقيق محمد عبد القادر عطا وأخيه، مراجعة نعيم زرزور، دار الكتب العلمية، بيروت، 1992، ص 76.
(19) انظر: وفيات الأعيان، والعقد الفريد، ومعجم الأدباء.
(20) سورة النساء، الآية 36.
(21) خيدر: الأفشين.
(22) سورة إبراهيم، الآية 28.
(23) النحل، الآية 83.
(24) النساء، الآية 61.
(25) التوبة، الآية 109.
(26) الأنبياء، الآية 18.
(27) ابن الأثير، الكامل في التاريخ، تحقيق أبي عبد الله القاضي، دار الكتب العلمية، بيروت، 1987، ص 468.
(28) الإسراء، الآية 24.
(29) وفي هذا نتبيّن كم كان أبو تمام فاهماً القرآن الكريم فهماً عميقاً، يتجاوز الفهم الأولي (السطحي)، فالمطلوب من الابن أن يخفض في الآية الكريمة لأن سياق الآية يشير إلى أن الابن يكون في مرحلة قوته، والأبوان في مرحلة ضعفهما] إمَّا يَبْلَغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ) وقد صوّر الخليفة خافضاً لأنه هو الأقوى.
(30) التوبة، الآية 40.
¥