ومتى استعمل اللفظ، بعد أن لازم معناه الذي وضع له، استعمالا جديداً ليدل دلالة جديدة، لم يكن بدّ في الاستعمال الجديد من قرينة تحددها وتميزها من معناه الأول. فإذا استعملت الجميل، وأردت به المعروف أو اليد البيضاء تسديها إلى من تحبّ فلتقرن اللفظ بقرينة دالة على ما تريد، كأن تقول: أسديت إلى فلان جميلاً، أو ذكرت لفلان جميله. قال أبو البقاء: "اللفظ إذا استعمل فيما وضع له يدّل عليه قطعاً، وإذا استعمل في غيره مع العلاقة والقرينة المانعة عنه يدلّ على هذا الغير قطعاً" (28).
وفي التمثيل توضيح لكلام أبي البقاء:
الخبر في الأصل النبأ، فإذا أردت به المصطلح النحوي، وهو الجزء المتم الفائدة فاقرنه بما يدلّ على مقصدك كأن تقول: خبر إنّ وأخواتها على ثلاثة أوجه: مفرد، وجملة، وشبه جمله.
وهذا يعني أنّ المصطلح لا يدل على معناه الاصطلاحي بحقيقة الوضع، بل يدل عليه بالنقل والتواضع. إذ لو كان لكل لفظ معنى واحد لا يبارحه لم يكن الخبر في النحو مغايراً للخبر في البلاغة، ولم يكن الخبرانِ ـ وكلاهما مصطلح ـ مخالفيْنِ للمعنى الحقيقي للخبر، وهو النبأ.
وهذا يعني كذلك أن المعنى الحقيقي أسبق في الظهور والاستعمال من المعنى الاصطلاحي، وأن المعنى الاصطلاحي اتساع في الدلالة اقتضته المعاني الجديدة المتخلجة في صدور العلماء، والباحثة عن ألفاظ تعبر عنها أو أوعية تستوعبها فكيف نميز المعنى الاصطلاحي من المعنى الحقيقي؟
إن التطور التاريخي للكلمة هو الذي يحدد معناها الاصطلاحي فربما كان الخبر النحوي ـ وهو قسيم المبتدأ ـ أقدم من الخبر البلاغي ـ وهو قسيم الإنشاء ـ لازدهار علم النحو قبل علم البلاغة. غير أن الغلو في الدرس التاريخي لإرجاع الألفاظ المستعملة إلى معانيها الحقيقية قد يحمل الدارس على رد المعنى الحقيقي المألوف إلى معنى حقيقي آخر أسبق منه على سبيل الافتراض والتخمين، كأن يقول: لعلّ الخبر بمعنى النبأ ناجم عن الخبرة. فالإنسان يختبر الأشياء، ثم ينقل خبر خبرته إلى الناس. وفي هذا الافتراض ما فيه من زعزعة لثبات المعاني الحقيقية للألفاظ. وحرصاً على هذا الثبات يحسن ترجيح معانيها الحقيقية على معانيها الاصطلاحية أو المجازية حيثما تيسر الترجيح. قال أبو البقاء: "إذا دار اللفظ بين كونه منقولا أو غير منقول كان الحمل على عدم النقل أولى" (29).
ومعنى اللفظ قبل النقل حقيقة، ومعناه بعد النقل مجاز، وسبب تسميته (مجازاً) مجاوزته الأفق الواقعي الذي كان يجول فيه إلى أفق علمي أو فني اقتضاه الاصطلاح.
واستعمال الألفاظ الحقيقية في صوغ المصطلح أو تعريفه لتحديد معناه أولى من استعمال الألفاظ المجازية. وفَهْمُ ألفاظ التعريف بمعانيها الحقيقية أولى كذلك من فهمها بدلالاتها المجازية. قال أبو البقاء: "ألفاظ التعريفات تحمل على معانيها الحقيقية" (30). غير أن استخدام الألفاظ بمعانيها الحقيقية وحدها في صياغة المصطلح، أو في تعريفه بعد صوغه أمر متعذر في أغلب الأحيان. إنه نوع من التحجير يقيد حركة التفكير، ويحمل واضع المصطلح أو صانع تعريفه على استخدام ألفاظ مرادفة له أو مضادة، فلا تفي بالغرض، كأن يقول: "التمييز: التفسير أو التبيين. والخبر قسيم المبتدأ".
وإذا كان علماء العربية متفقين على أنّ في العربية ألفاظاً يدل الواحد منها على الشيء وضده فإنهم لم يفتوا بصحة الترادف، أو لم يجمعوا على هذه الصحة. وفي هذه الحالة يصطدم الواضع بمشكلة لم تحسم، وهي الإقرار بالترادف أو إنكاره.
فالإمام فخر الدين الرازي يقرّ بأن في العربية ألفاظاً مترادفة، ويعرفها بأنها: " الألفاظ المفردة الدالة على شيء واحد باعتبار واحد" (31) وأحمد بن فارس اللغوي ينكره أشدّ الإنكار، ويعدّ المترادفات صفات لشيء واحد، لأن الشيء الواحد له اسم واحد، أو ينبغي أن يكون له اسم واحد، وضع له، ثم نعت بنعوت ظنها المتأخرون مترادفات (32). ولعلّ هذا الاختلاف هو الذي دفع أبا البقاء إلى الحذر والتقييد في تعريف المصطلح بلفظ يرادفه، فاشترط لذلك شرطين:
ـ أولهما: تطابق دلالتي اللفظين المترادفين والمساواة التامة بينهما، وفي ذلك يقول: "حقّ المترادفين صحة حلول كّل منهما محلّ الآخر" (33).
¥