على صيغة الاستفهام في المثال الأخير أدى إلى معنى جديد، وأمثالها في القرآن كثير، فخفض الصوت عند النطق بها يؤدي للمستمع رسالة صوتية ونغمة موسيقية، وهي أن هذا الكلام إنما خرج ادعاءً وليس له أصل أو حقيقة. فانظر كيف كان لهذا التنغيم أكبر الأثر في بيان تلك المعاني، والله أعلم بالصواب، فعلماء التجويد كانوا على علم وتنبه لهذا، فقد كانوا حريصين على ضرورة أن يكون الأداء سليماً عند التلقي والأداء حتى لا يتغير المعنى.
من هنا ندرك الأثر النفسي الذي يتركه الأداء السليم للنبر في ألفاظ القرآن الكريم، فهو عدا عن كونه يقف على صواب المعاني، نجده ينقل القارئ نفسه إلى اليقظة والتنبه المستمرين والناشئين عن ارتفاع الصوت وانخفاضه والتراوح بينهما، والذي يعطي بدوره حياة للنفوس وتجدداً، ويزيل عنها أثر الملل والسآمة.
يذكر أنّ بعض الذين تحدثوا عن المفارقة اللغوية أشاروا إلى وجود ثلاثة أنواع للمفارقة وهي: 1 - مفارقة النغمة 2 - المفارقة اللفظية 3 - المفارقة البنائية.
والذي يعنينا في هذا هو النوع الأول، ويسمون هذه النغمة بالنغمة التهكمية ( Sarcasm) وهو "مفارقة النغمة"، ويمثلون لهذا النوع بقوله تعالى: ? ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ ?، وتوضيح ذلك: أن الآية مكونة من جملتين الأولى فعلية: ? ذُقْ ?، والثانية اسمية: ? إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ ?.
أما الأولى: ? ذُقْ ?، فهي متلوة بوقفة قصيرة، ويلحظ أنها اشتملت على أعلى المستويات في النبرات. (أي درجة الصوت فيها عالية).
وأما الثانية وهي الاسمية فتبدأ فيها النبرة عالية إلى أن تصبح منخفضة جداً في آخر الجملة.
وهكذا نجد أن نغمة الأمر في ? ذُقْ ?، ينبغي أن تؤدى أداءً مختلفاً إذا ما قورنت بكلمة أخرى ورد فيها الأمر، كقوله تعالى: ? خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ ?، إذ الأمر في الآية السابقة منفصل عن الجملة التي تلي، بخلاف الآية الأخيرة التي هي جزء من الخطاب.
يشار إلى أن التنغيم هو أكثر ما يستخدم في اللغات للدلالة على المعاني الإضافية (كالتهكم والتأكيد والدهشة والغضب .. )، وهكذا يتلائم التنغيم ليعبّر لنا عن المقام وتمنح تموجاته النغمية دلالات نفسية وتجسّد حالات عاطفية لا تستطيع اللغة الهجائية التعبير عنها.
كما يلاحظ أن عنصر المفاجأة يلعب دوراً رئيسياً في التمييز بين الحركات النغمية، فلفظة "ذق" ليس فيها حرف مد، فهي تلعب عنصر المفاجأة، وهو بدوره له ملحظ نفسي إذ النفس تفاجأ بهذا الأمر الغريب، خاصة وأن هذا الفعل في العادة يستعمل لما طاب من الطعام، وهو هنا خرج مخرج السخرية. وبعض الآيات التي يكون فيها النبر عالياً تقوم النبرة فيها في حقيقة الأمر بتصوير الحالة النفسية من تصوير لحدة الطبع وتعكير المزاج، وانتفاخ الأوداج، ويمكن أن يمثل له بقوله تعالى على لسان قوم شعيب: ? قَالُوا يَاشُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ ?، لو دققنا في المقطع الأخير، وهو قوله تعالى: ? إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيد ?، سنجد أن مقاطع النبر فيه عالية، ويمكن وصفها بالآتي: حيث زيادة الحروف تعبر عن طول النطق (إ - - ك لأ - ننت الحلييييم الرشييييد)، وهذا -كما يفسّره علماء الطبيعة (الفسيولوجيون) - سلوك حركي عضوي، ذلك أن المقطع المنبور نبراً عالياً ينطق مصحوباً بشد عضلي في مناطق أخرى، مثل: "عضلات الفم والقفص الصدري .. "، هذه النبرة تزيد المفارقة سخرية، ويلحظ في هذا أنهم صوبوا نقيض ما وصفوه به إلى أنفسهم في الوقت الذي رغبوا فيه رميه بنقيض هذه الصفات.
لو سألنا علماء الصوتيات عن وصف الفم أثناء النطق بمقطع منبور؟ لكان الجواب كالآتي:
• تنشط جميع أعضاء النطق المشتركة في نطق ذلك المقطع.
• تنشط عضلات الرئتين بشكل مميز لدفع الهواء بنشاط أكبر.
• تقوي حركات الوترين الصوتيين وتتسع الذبذبات ويتقارب الوتران أكثر في حالة الأصوات المجهورة.
• يزداد نشاط الشفتين إذا اشتركتا في النطق.
• تصبح حركة اللسان دقيقة محكمة حتى يضمن وضوح مخارج الأصوات وعدم التباسها مع غيرها.
• يزداد الجهد العضلي لأعضاء الكلام عامة.
وهذا أسلوب قرآني رائق، إذ النص القرآني يجعل هذا التهكم بهم معلوماً ومدركاً لدى المستمع أو قارئ النص، في حين أنه يخفى على المتكلم نفسه، ويلاحظ هنا دور النغمة التهكمية في إبراز المعنى. ومثل هذا في كتاب الله كثير.
نخلص من هذا كله إلى أن كلا من النبر والتنغيم لهما دور كبير في إبراز تلك الموسيقية التي بدورها تترك أثراً عظيماً في نفس المستمع، وينتهز الباحث مثل هذه الفرصة ليسجل أمنيته وتوصيته لأصحاب الاختصاص ممن لهم علم باللغة والأصوات أن يشتركوا مع أهل الاختصاص من المفسرين ومعهم القراء المتقنون، ليتمكنوا من الإشراف على إخراج نموذج لقراءة من هذا النوع، فيفيد منها المسلمون، خاصة وأن الوسائل الحديثة تعين على إصدار مثل هذا النوع. فتكون صوتية يراعى فيها حسن الأداء وقواعد النغم.
أقول وبهذا يتبين لنا أهمية ودور التنغيم في كتاب الله والذي يمكن إجماله بالآتي:
? لا يتأتى النطق الصحيح إلا بمراعاة النغم وتمثله، وبه يتضح المعنى ويفهم الغرض من الكلام.
? يعتمد عليه في توجيه الإعراب فيما ورد فيه أكثر من وجه إعرابي.
? يجيء به الكلام مسبوقاً وفق مقتضيات الأحوال فلكل مقام مقال وقالب تنغيمي خاص.
بهذا ندرك السر في قول بعضهم: "وإنك لتخشع لسماع الآية بجرسها وموسيقاها حتى قبل أن تعيها وتفهم معناها، ومن ثم كان ترجمتها ضربا من المحال".
¥