ولعل هذا المذهب يفسر اعتبار الشيعة أن قراءة عاصم وحدها هي القراءة المتواترة لارتباطها بقراءة علي.
إن جملة هذه الملاحظات من تفسير الطبري تحيلنا إلى أن قراءة حفص قراءة مخالفة لقراءة الجمهور في كثير من الأحيان والأمثلة على ذلك وافرة في المصادر التي اعتمدنا، فإذا أخذنا تفسير الطبري مثلا عثرنا على نماذج عديدة من ذلك "يجمعون": في آل عمران، 175 إذ قرأها حفص وحده بياء الغيبة في حين أجمع الباقون على قراءتها بتاء الخطاب، وقد أوردنا في هذا العمل جملة من انفرادات حفص في القراءة.
فأي مبرر حينئذ لاختيار قراءة حفص دون سواها من القراءات والحال ذلك؟
يرجع بعض الباحثين انتصار رواية حفص عن عاصم دون غيرها من القراءات خاصة في المشرق الإسلامي على الرواية الثانية عن عاصم والتي كانت هي المقدمة عند القدماء كما اشرنا خاصة إلى المقاييس المعتمدة في الاختيار، وهو شأن لغوي بالأساس يتصل بموافقة القراءة لقواعد اللغة العربية إذ" رجحت كفة رواية حفص على كفة الرواية الأخرى عن عاصم ويعود فوز رواية حفص عن عاصم في إطار التنافس بين الروايات الكوفية وبين هذه القراءات الأخرى إلى كونها لا لون لها بسبب توافقها شبه التام الكامل مع نطق العربية الكلاسيكية السائد".اهـ (تاريخ القرآن، ج3، ص610).
وهو انتصار أيده اختيار بعض المهتمين بشأن القراءة " فأوّل من أيد قراءة حفص عن عاصم التي انتصرت بعد ذلك على غيرها هو الناقد المعروف للتقليد يحيى بن معين (ت233هـ) ".اهـ (المرجع السابق، ص 610).
كان هذا هو الشأن في المشرق الإسلامي ولكن كان الأمر مختلفا في المغرب الإسلامي (مصر وشمال أفريقيا والأندلس)، الذي لم تكن فيه هذه القراءات معروفة حتى أواخر المائة الرابعة، ومن ثمة اختار أهل المغرب أن يقرؤوا وفق قراءة نافع برواية ورش، وهو ما يشير إلى أنّ ما ذهب إليه علماء المشرق من انتقاء رواية حفص لم يكن متفقا عليه في بقية العالم الإسلامي وخاصة في مغربه الذي أخذ في آن واحد الفقه المدني والقراءة المدنية.
إنّ انقسام العالم الإسلامي بين هاتين الروايتين يؤكد أنّ قراءة حفص لم تحز على الإجماع حتى في فترة متأخرة من التاريخ الإسلامي، وإنّما سيادة هذه الرواية النهائية في جزء كبير من العالم الإسلامي لا يمكن إرجاعه إلى مقاييس القراءة وإنّما إلى الشأن السياسي، فتاريخيا سادت العالم الإسلامي قراءتا أبي عمرو في المشرق ونافع في المغرب"وفي بعض الأحيان كانت لأبي عمرو أهمية كبيرة، وبدا أنه تسيد الشرق.
وكانت قراءته متداولة في البصرة، حسب مكي (ت437) حوالي العام200 ... وقد عثر المقدسي على قراءة أبي عمرو في اليمن وسوريا (ما عدا دمشق) وجبال ومصر وحوالي العام 500 سادت هذه القراءة في دمشق. وفي أيام ابن الجزري (ت811) سيطرت هذه القراءة في سوريا والحجاز واليمن ومصر على تدريس القرآن.".اهـ (المرجع السابق، ج3، ص608).
وهكذا لم يكن لقراءة حفص عن عاصم حظوة عند المتقدمين، وقد استقر هذا الوضع إلى أن وصلنا على المستوى السياسي إلى مرحلة الدولة العثمانية، فخلال الحكم العثماني اعتمدت في الصلاة إلى جانب قراءة أبي عمرو قراءة حفص ثمّ شيئا فشيئا انتصرت قراءة حفص، فكما فرض العثمانيون المذهب الحنفي على العالم الإسلامي فرضوا أيضا قراءة حفص، وهو ما تمكنوا من تحقيقه في المشرق الإسلامي وأجزاء أوروبا التي فتحوها في حين ظلّ المغرب الإسلامي وبلاد الأندلس خارج سطوة الدولة العثمانية وفي منأى عن هذا الفرض لعدم إحكام السلطنة سلطتها على هذه الأجزاء من العالم الإسلامي، وبالتالي لم تتمكن من فرض قراءة حفص عليها فظلت قراءة نافع براوييه ورش وقالون هي المعتمدة في مصر والمغرب الإسلامي في حين ظلت قراءة أبي عمرو إلى اليوم معتمدة في السودان.اهـ (المرجع السابق، ص608).
إنّ للشأن السياسي أثراً في نشر قراءة حفص في جزء كبير من العالم الإسلامي وقد كان الأمر ذاته خلال الفترة السابقة من التاريخ الإسلامي، فابن مجاهد ذاته الذي اختار نظام القراءات السبع خضعت قائمته لتأثير الساسة إذ ألحق الكسائي بالسبعة في أيام المأمون، وأقصى يعقوب الحضرمي من تصنيفه، ومن ثم عاد إلى إعتبار الثاني دون الأول في ما بعد.
فانتشار قراءة حفص لا يجد مبرره في المقاييس الخاصة بالقراءة فقط باعتبار غياب الاجتهاد فيها وإنما يتصل بتوجه سياسي في مرحلة الدولة العثمانية ومن ثم بانتشار المصاحف المطبوعة في المملكة العربية السعودية والتي وجدت رواجا في العالم الإسلامي باعتبار الوفرة وإحكام آليات التوزيع المعتمدة.
ـ[أحمد شكري]ــــــــ[21 Dec 2008, 08:47 ص]ـ
أشكر أخي الكريم الدكتور محمد كالو على هذه المشاركة وأغتنم الفرصة لأهنئه بمناسبة حصوله على درجة الدكتوراه وإن كانت متأخرة ولكن كما قيل (أن تصل متأخرا خير من أن لا تصل) وإن كان حق الإقامة في المدينة نفسها يجعل الواجب عليّ نحو أخي محمد كالو أكبر من تهنئة (انترنتية) وإن شاء الله أشرف بلقائكم قريبا
ولي بعض استفسارات حول المقال أو البحث إذ شدني العنوان ولكني بعد قراءة المقال وددت أن يكون مستوعبا للمسألة أكثر وموثقا لمعلومات وردت فيه دون توثيق، ولا أقف مع الأمور اليسيرة فيه كإطلاق القراءة على الرواية أو السهو في سنة وفاة ابن الجزري ولكني أرغب في توثيق معلومة أن الدولة العثمانية ألزمت برواية حفص فكيف كان هذا الإلزام وهل يمكن تحديد الوقت الذي حصل فيه وقد ورد في عدد من المقالات والبحوث الأخرى الإشارة إلى هذا السبب مع أسباب أخرى لها وجاهتها، والإشارة إلى أن الطبري لم يكن ملتزما في إيراد نص المصحف وفق رواية حفص إشارة طيبة وقد ذكر آخرون أن الزمخشري والشوكاني والجلالين وغيرهم لم تكن تفاسيرهم وفق رواية حفص كذلك.
وما ورد في نهاية المقال من أن انتشار المصاحف المطبوعة برواية حفص أحد أسباب ذيوع الرواية وكثرة من يقرأ بها يؤكده الواقع، وهو أمر متأخر نسبيا إذ انتشرت المصاحف المطبوعة بكثرة بعد ظهورالطباعة وانتشارالمطابع وكان بواكير ذلك في ألمانيا وتركيا ثم انتقلت إلى مصر وبلاد الشام والجزيرة وغيرها
¥