إحداهما: أنه - صلى الله عليه وسلم - إذا سمع مثل هذا الخطاب تحركت منه الأرْيَحيَّة (11) فيزداد في الثبات على اليقين نوراً على نور.
والثانية: أن السامع يتنبه بهذا الخطاب على أمر عظيم، فينزع وينزجر عما يورث الامتراء؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - مع جلالته وعلو قدره خوطب بمثل هذا فكيف بغيره؟» (12).
وقيل الخطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم -، والمراد أمته (13).
ثم أمر الله - تعالى - رسوله صلى الله عليه وسلم أن يباهل من جادله في شأن عيسى - عليه السلام - بعد قيام الحجة عليه، وظهور الحق له بالأدلة الواضحة والبراهين الساطعة؛ «وذلك بأن يحضر هو وأهله وأبناؤه، وهم يحضرون بأهلهم وأبنائهم ثم يدعون الله - تعالى - أن ينزل عقوبته ولعنته على الكاذبين» (14).
«وإنما ضم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى النفس الأبناء والنساء مع أن القصد من المباهلة ( http://www.twhed.com/vb/t1348.html) تبين الصادق من الكاذب وهو مختص به وبمن يباهله؛ لأن ذلك أتم في الدلالة على ثقته بحاله، واستيقانه بصدقه، وأكمل نكادية بالعدو، وأوفر إضراراً به لو تمت المباهلة» (15).
ثم أكد - سبحانه وتعالى - صدق ما قصه وأخبر به من أمر عيسى - عليه السلام - وأنه هو الحق الذي لا جدال فيه، لا ما يدّعيه النصارى وغيرهم، مبيناً - سبحانه - أنه هو المتفرد بالربوبية المستحق للألوهية، وأنه هو العزيز في ملكه، الحكيم في تدبيره.
وفي ختام الآيات هدد الله - تعالى - نصارى نجران الضالين إن هم أعرضوا عن الحق بعدما تبين لهم في هذه الآيات البينات التي سمعوها فلم يرجعوا عن دينهم الباطل وقولهم الفاسد، مبيناً أنه عليم بهم، لا يخفى عليه من أعمالهم شيء، بل يحصيها عليهم ثم يجازيهم بها (16).
وقد أخرج البخاري في صحيحه عن حذيفة - رضي الله عنه - أنه قال: «جاء العاقب والسيد صاحبا نجران إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يريدان أن يلاعناه، قال: فقال أحدهما: لا تفعل؛ فوالله لئن كان نبياً فلاعنّا لا نفلح نحن ولا عقبنا من بعدنا، قالا: إنا نعطيك ما سألتنا وأبعث معنا رجلاً أميناً، ولا تبعث معنا إلا أميناً، فقال: «لأبعثن معكم رجلاً أميناً حقَّ أمين»، فاستشرف له أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: قم يا أبا عبيدة بن الجراح! فلما قام قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «هذا أمين هذه الأمة» (17).
وأخرج ابن جرير عن محمد بن جعفر بن الزبير (18): «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما أمر بملاعنتهم دعاهم إلى ذلك، فقالوا: يا أبا القاسم! دعنا ننظر في أمرنا ثم نأتيك بما تريد أن تفعل فيما دعوتنا إليه، ثم انصرفوا عنه، ثم خَلَوْا بالعاقب، وكان ذا رأيهم، فقالوا: يا عبد المسيح ماذا ترى؟ فقال: والله يا معشر النصارى لقد عرفتم أن محمداً لنبيٌّ مرسل، ولقد جاءكم بالفصل من خبر صاحبكم، ولقد علمتم أنه ما لاعن قوم نبياً قط فبقي كبيرهم ولا نبت صغيرهم، وإنه لَلاستئصال منكم إن فعلتم؛ فإن كنتم أبيتم إلا إلف دينكم والإقامة على ما أنتم عليه من القول في صاحبكم فوادعوا الرجل وانصرفوا إلى بلادكم.
فأتوا النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقالوا: يا أبا القاسم! قد رأينا ألاَّ نلاعنك، ونتركك على دينك، ونرجع على ديننا، ولكن ابعث معنا رجلاً من أصحابك ترضاه لنا يحكم بيننا في أشياء اختلفنا فيها في أموالنا، فإنكم عندنا رضى» (19).
وأخرج ابن جرير عن السدي (20) في قوله - تعالى -: (فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ) [آل عمران: 61]: «فأخذ النبي - صلى الله عليه وسلم - بيد الحسن والحسين وفاطمة، وقال لعلي: اتبعنا، فخرج معهم، فلم يخرج يومئذٍ النصارى، وقالوا: إنا نخاف أن يكون هذا هو النبي - صلى الله عليه وسلم -، وليس دعوة النبي - صلى الله عليه وسلم – كغيرها، فتخلفوا عنه يومئذٍ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لو خرجوا لاحترقوا»، فصالحوه على صلح: على أن له عليهم ثمانين ألفاً، فما عجزت الدراهم ففي العروض: الحُلَّة (21) بأربعين، وعلى أنه له عليهم ثلاثاً وثلاثين درعاً، وثلاثاً وثلاثين بعيراً، وأربعة وثلاثين فرساً غازية كل سنة، وأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ضامن لها
¥