ـ[خسرو النورسي]ــــــــ[13 Oct 2010, 09:03 ص]ـ
أولا: موقف د. طه من التبعية والتقليد:
يكاد مشروعه يكون حرباً على التقليد والتبعية وعلى المقلدة المنتمين إلى الإسلام والعروبة منذ أواخر القرن التاسع عشر إلى يومنا هذا، بل وعلى المتفلسفة العرب منذ كان التفلسف عندهم.
لماذا هذا الموقف المتصلب ممن يدعوهم أهل التقليد، ولماذا هذه الحملة الشعواء على صنيعهم؟
لأنهم –في نظره – استلذوا التفلسف على طريقة غيرهم؛ فهم يخوضون فيما يخوض فيه غيرهم، ويفتعلون أسئلة غيرهم؛ بل إن تلك الأسئلة، البعيدة عن حقيقتهم، قد
استعبدتهم وأصبحت تؤرقهم.
ولم يذهبوا إلى مساءلة ذلك التفلسف عند أهل الغرب ونقده على مقتضيات ثقافتهم،
ولم يتمكنوا من مراجعة التصور الذي ساد عن الفلسفة الغربية عموما،
ولم يستطيعوا أن يأتوا بما يضاهيها؛ انطلاقا مما يستشكلونه هم من واقعهم؛
ولأنهم تسببوا بتقليدهم للفكر الغربي في خنوع الأمة واستسلامها، وقادوها بفكرهم "المتنور" إلى الظلام والاستسلام. فقد وجد أن أصحاب الفكر الإصلاحي في العصور الحديثة والمعاصرة قد اتخذوا من عقلانية الغرب منهجا ومنطلقا في التفكير، وربطوا كل تقدم بانتهاج العقلانية الغربية. وأغلب رواد الإصلاح، وأهل العقلانية والحداثة، وأصحاب المناهج والمشاريع في قراءة التراث؛ بنَوا مجدهم التنظيري وشهرتهم في المحافل والمنتديات والكتب والمجلات على ما تساقط إليهم من مناهج الغربيين وأفكارهم.
كما وجد أن أهل الفكر من المتفلسفة العرب، في العصر الحديث، قد اندفعوا في تقليد فلاسفة الغرب، واقتفوا آثارهم، وتعلقوا بأسباب لا تمت إلى وجودهم؛ فافتقدوا حاسة النقد عندهم، وتقلبوا في أطوار حياتهم من النقيض إلى النقيض. والسر في ذلك
" قصور وسائلهم عن الإحاطة بدقائق وسائل من يُقلدون"
(1).
فنقاد التراث – مثلا – غلب عليهم التوسل بأدوات البحث التي اصطنعوها من مفاهيم الغربيين ومناهجهم ونظرياتهم؛ فقلدوها وما ملكوا ناصية تقنياتها، ولا تفننوا في استعمالها (2)،
وحين انقطعوا عن التراث جملة؛ كان لجوؤهم إلى تراث الثقافة الغربية الحديثة؛"مقلدين لمسالكه، ومتشبهين بأصحابه".
وماذا فعل مقلدة العصر بتراثهم حين ذهبوا في قراءته كل مذهب، ووضعوا له مشاريع قراءات؟
وجد الأستاذ طه أنهم
أولا: قطَّعوا أوْصالَه.
ثانيا: خطَّأوا أصحابه.
ثالثا: اجتزأوه.
رابعاً: اقترضوا من غيرهم طرائقهم المستعملة في النقد.
خامسا: ظلت كتاباتهم دعوة إلى تقليد الفكر الغربي وتقليد أهله (3).
وقد بلغ الناس من كثرة السير في نَفَق التقليد حداً جعلهم
يستطيبون لذة التقليد، ويرونه هو عين التجديد.
ووجد أهل التقليد يتنكرون لهويتهم ويتحدثون عن الكونية. يقول:
"أما ترى أن المتفلسف العربي لا يصوغ من الألفاظ إلا ما صاغه غيره، ولا يستعمل من الجمل إلا ما استعمله، ولا يضع من النصوص إلا ما وضعه ( ... ) يؤولون إذا أول غيرهم، ويحفرون إذا حفر غيرهم ويفككون إذا فكَّكَ غيرُهم …" (4).
وقد انخدعوا بمقولتين: الاستجابة للشمولية الفلسفية والانخراط في الحداثة العالمية. وما استجابوا وما انخرطوا؛
وإنما أصيبوا بسوء التفلسف فامَّحَوْا في غيرهم بكل "كبرياء".
وظل يدعو المفكرين من أبناء جلدته أن يُمارسوا حقهم في الإبداع الفلسفي، أن يُقدموا الدليل على تلك الممارسة في استخدام المفاهيم المتداولة في الممارسة الإسلامية العربية.
مأساة الأمة أن كثيرا من مفكريها َيتَشكلُّون مع الأحوال، ويُغيرون "الديكورات" في كل آن، ويركبون أمواج التقاليع الآتية من الغرب.
وظلت توجهاتهم الإصلاحية تتخذ من الغرب قبلة لها، ومن عقلانية ذلك الغرب منهجا لها في التفكير، ومنطلقا لها في الاجتهاد، وما فتِئتْ منهجياتُهم تربط كل تقدم وتحضر بانتهاج تلك العقلانية الغربية والاحتكام إليها.
والمفارقة الحادة التي تناولها د. طه في مجمل كتبه هي ما يمكن أن يوجزها قوله:
"إن النمط المعرفي الحديث غير مناسب إن لم يكن غير صالح للتوسل به في بناء معرفة إسلامية حقيقية" (5). والأدهى في نظر الباحث أن المتفلسفة العرب المعاصرين لم ينتبهوا إلى وجود جراثيم "التهويد" في الفلسفة الحديثة، فهم يتفلسفون بما يخدم عدوهم، وأبحاثهم تدور في الوقت الراهن على إشكالات تلك الفلسفة المتهوِّدة الحديثة.
وجوهر مشروع طه – كما سنرى - أن نتميز عن غيرنا في المعترك الفكري المقبل، أن يكون لنا حقنا في الإبداع الفلسفي المختلف وأن نضع الكيفية التي بها نحقق ذلك الاختلاف. ومن هنا نهض بمشروع " فقه الفلسفة" لمحو التبعية عن فكرنا الإسلامي، وإقدار ذويه على الإبداع في مجال الفلسفة.
أما لماذا الفلسفة؟
فلأن كل شرور الانحراف تسربت منها؛
ولأن مفكرينا تفلسفوا - منذ شرعوا في التفلسف - بأدوات غيرهم، وطرَّزا على أثواب غيرهم، و هي أثواب نُسجت في شروط تاريخية وفكرية مغايرة.
¥