ـ[د. يحيى الغوثاني]ــــــــ[03 Nov 2010, 08:37 ص]ـ
الجزء الثاني من المقامة القصيمية
في يوم الاثنين 5 صفر 1427 هـ (في عنيزة)
ويتابع الراقم لهذه الأوراق، يحيى بن عبد الرزاق، حديثه الشائق، ووصفه الرائق، والذي تفتحت له الأحداق، وتمايلت طربا له المتون والأعناق، وتأمل بين سطوره أهل الأذواق، فذاقت ارواحهم من خلاله الشهد المذاب، وحلا الاستماع للحديث وطاب ...
كنت على موعد أكيد، مع الشيخ الداعية عبد الرحمن الشتوي أبي عبد الملك الصديق الفريد، وهو أحد الأحباب القدامى الذين يجيدون انتقاء الألفاظ، بل وحضر دورتي وصار من جملة الحفاظ، وانطلقنا قبيل الظهربهمة وسعادة قوية، متجهين إلى المكتبة الصالحية، لزيارة العلامة النسابة الشيخ محمد العثمان القاضي، ومن هو عن حال أهل العلم غير راضي،
ودخلنا بوابة المكتبة العتيدة، فوجدنا رجلا يتصفح جريدة، وقد استرخى في مقعد وثير، يتابع سطور الأحداث بعمق وبشكل مثير، فألقينا عليه تحية الإسلام، فهب من جلسته وقام، مرحبا ومسلماً حافي الأقدام، ورحب بنا ترحيبا فوق ما يليق بالمقام، وأخذنا أماكننا في غرفته، واسترخى هو على أريكته، ثم عرفه أبو عبد الملك بهويتي، وببلدي وبسبب زيارتي ...
وقبل أن يسترسل بالكلام على السجية، اقتنصت الفرصة حتى لا يفوتني التسلسل بالأولية، فقرأت عليه حديث الرحمة بكل روية، وهو منصت إنصات المتعجب الأواه، فكرره فضيلته بصوت مرتفع وأسمعني إياه، ثم قال وعلامة الجد والغضب قد بدت عليه، ماذا يعني هذا وماذا تقصد من مبادرتك إليه!!
فابتسمت وقلت لا يخفى على فضيلتكم أيها الشيخ المبجل، أنه حديث متصل بالنبي صلى الله عليه وسلم ومسلسل، ولقد سمعنا عنك أن لديك إجازات واتصالات، وصولات وجولات، في علم الأسانيد والمسلسلات، ولكم عدة رويات، عن شيوخ وعلماء مسندين، وأنك تروي هذا الحديث متصلا عن شيوخك المجيدين، من أهل عنيزة وبريدة النجديين،
فقال نعم عندي وعند أبي عشرون إجازة مخطوطة ... ولم يحصل على مثلها حتى ابن بطوطة، ولكن لا فائدة منها ولا جدوى ولا هي مضبوطة
وشيخنا ابن سعدي الشيخ الشهير، كان له رأي في هذه المسألة خطير مع أنه مجاز من ثلاث شيوخ، من ذوي العلم والرسوخ ـ ومن لهم في العلم أيما عزة وشموخ، وقال قولة قديمة وهي مما سمعتها منه ورأيت: لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما استجزت أحدا ولا رويت ... فلا فائدة من هذه الإجازات، ولو زعمتم ما في فيها من البركات والخيرات، بل كثير منها خرافات في خرافات،
قلت وبكل تلطف وهدوء، وقصدي أن ألا يهيج الجو ويسوء: يا شيخنا لا يخفى عليكم فوائدها وقيمتها، ولا معناها ومكانتها، ولا جمالها وفتنتها، فاستشاط غضباً وصاح، بصوت أقوى من صوت أبي الدحداح، وقال أنا لها لا أرتاح، ولا فائدة منها ولومدحتها من المساء إلى الصباح
وههنا تكهرب الجو واستحكمت الشدة، وظهر من ثتايا الكلام نبرة الحدة، وكأن الشيخ من قبل مجيئنا قد أعد العدة، أو أنه قد استثير في هذا الموضوع من بعض طلبة العلم من الحجاز وجدة،
فتلطفت بالكلام والإيجاز، وابتسمت ابتسامة تشي بالحب والاعتزاز، وقلت: ولكن شيخ الاسلام ابن تيمية قد استجاز وأجاز، وهذا أمر مشهور متواتر بين علماء الشام ومصر والحجاز،
فلما سمع اسم شيخ الإسلام ابن تيمية، زالت الحدة النجدية، واعترته لحظة خشوع وروية، وكأنه قد حلت علينا سكينة سماوية، فقال: نعم زمانهم غير زماننا، وأحوالهم غير أحوالنا، وأنا لا أنكر إجازات أولئك الكبار، من العلماء الأخيار، والسلف الأبرار، وإنما أنا أصب جام غضبي وأسل سيف الإنكار، على ما أسمعه في الليل والنهار، مما يفعله شباب اليوم في بعض الأمصار، من قراءة حديث أوحديثين من أول البخاري أو أحد كتب السنة الكبار، ويريد إجازة فيه وفي سائر كتب علماء الأمة والأمصار، بل وفي سائر العلوم، منطوقها والمفهوم، والمعقول منها والمنقول .. هذا عبث .... هذا عبث ..... لا يقبله صحاح العقول،
ثم بدأ يصيح بصوت مرتفع، حتى كاد من أريكته أن يقع، لا فائدة منها أيها الضيف الأمين، فأنا لم استفد منها شيئاً على مر السنين، وأنا عنها من جملة المثبطين .. تفضل تفضل القهوة، مع التميرة وكل ما تهوى.
¥