وكلامه هذا تعليل لما سمعه عن العرب أو عن شيوخه عن العرب وليس اجتهادا شخصيا كما وهم بعض النحويين، فهو يفسر امتناع العرب عن تقديم المنصوب في (امتلأ الحوض ماء) بكون الفعل مطاوعا، ويقدم لنا نظيرا وهو امتناع تقدم معمول الصفة المشبهة عليها لكونها مقصورة على صاحبها لا يتعداه معناها.
وسيبويه في هذا النص بين لنا بناء على استقرائه لكلام العرب ثلاثة أحكام لهذه الأفعال:
الأول أنها لا تعمل في ضمائر النصب فلا يقال: امتلأته.
الثاني أنها لا تعمل في المعارف من غير الضمائر، فلا يقال: امتلأت الماء.
الثالث: أن معمولها المنصوب النكرة لا يتقدم عليها فلا يقال: ماء امتلأت.
وهذه الأحكام ليست صادرة عن رأي شخصي مبني على القياس، وإنما هي مستنتجة من تتبعه لما وصل إليه من كلام العرب، والدليل على ذلك قوله: (وهو ـ في أنهم ضعفوه ـ مثله) أي: هذا الفعل في أن العرب ضعفته ولم تتصرف فيه مثل الاسم الذي يعمل عمل الفعل ولم يقو قوة اسم الفاعل، في أنه ضعيف لم تتصرف العرب في معمولاته.
ولو كان منع التقديم رأيا واجتهادا لوجب أن يكون الحكم الآخر أيضا رأيا واجتهادا، ولصح لنا أن نقول: إن سيبويه يرى أن هذه الأفعال لا تتعدى للمعارف بناء على رأيه، لا بناء على كلام العرب.
وبهذا يتبين خطأ المبرد ومن بعده في جعل هذا رأيا يراه سيبويه.
ونقل ابن السراج عن المبرد هذا الخطأ وهو أن سيبويه منع التقديم هنا قياسا على امتناع التقديم في (له عشرون درهما) و (هو أفرههم عبدا) فقال ـ ولم يرجع للكتاب في هذا الموضع ـ كما قال أستاذه،:
وإذا كان العامل في الاسم المميز فعلاً جاز تقديمه عند المازني وأبي العباس، وكان سيبويه لا يجيزه، والكوفيون في ذلك على مذهب سيبويه فيه، لأنه يراه كقولك: عشرون درهماً، وهذا أفرههم عبداً فكما لا يجوز: درهماً عشرون ولا: عبداً هذا أفرههم، لا يجوز هذا، ومن أجاز التقديم قال: ليس هذا بمنزلة ذلك لأن قولك: عشرون درهماً إنما عمل في الدرهم ما لم يؤخذ من فعل، وقال الشاعر فقدم التمييز لما كان العامل فعلاً:
(أتَهْجُرُ سَلْمَى لِلفِرَاقِ حبيبها ... ومَا كانَ نَفْساً بالفِرَاقِ تَطِيبُ)
فعلى هذا تقول: شحماً تفقأت وعرقاً تصببت، وما أشبه ذلك. اهـ
ولم ير سيبويه أن (تفقأت شحما) مثل (له عشرون درهما) أو (هو أفرههم عبدا) وإنما رأى _ كما ذكرنا_ أن ضعف أفعال المطاوعة بين الأفعال كضعف اسم التفضيل والعشرين بين الأسماء التي تعمل عمل الفعل.
ونقل أبو علي الخلاف في الإيضاح ولم يفصل في قضية كون هذا رأيا شخصيا لسيبويه، ولكنه ذكر أن أبا إسحاق قال: الرواية الصحيحة: وما كان نفسي بالفراق تطيب، فكأنه يميل إلى رأي سيبويه.
أما عبد القاهر فقد انتصر لسيبويه، ورد على المبرد قياس تقديم التمييز على تقديم الحال، فقال ردا على أبي العباس:
(وكان قاس ذلك على الحال، كقولهم: راكبا جاء زيد، وليس الأمر على ذلك، لأجل أن المنصوب في هذا الباب هو الفاعل على الحقيقة، ألا ترى أنك إذا قلت: تفقأ زيد شحما، كان الفعل للشحم البتة. وتقول: حسن زيد غلاما، ودابة، وثوبا، فلا يكون له حظ في الفعل من جهة المعنى. وليس كذلك قولك: جاءني زيد راكبا، لأن الفعل لزيد على الحقيقة، وراكب تابع له، فلما كان المنصوب في قولك: تفقأ زيد شحما، فاعلا محضا له الفعل في الحقيقة، وكان الذي أسند إليه الفعل فاعلا لفظا لا معنى لم يقدم على الفعل كما لا يقدم إذا جعل فاعلا لفظا، فقيل: تفقأ شحم زيد. ولما لم يكن (راكب) الفاعل على الحقيقة في قولك: جاءني زيد راكبا، وكان الفعل لزيد، كان الفعل قد استوفى فاعله لفظا ومعنى، فكان ما بعده من المنصوب في حكم المفعول المحض، نحو: ضرب زيد عمرا، والمنصوب في قولك: تفقأ زيد شحما، وحسن وجها، بمنزلة الفاعل، إذ الفعل قد أخذ فاعله لفظا لا معنى، فلم يجز تقديمه، كما لا يجوز تقديم الفاعل= نحو أن تقول: وجوهكم حسن، تريد: حسن وجوهكم، فتقدمه. اهـ
¥