تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

الأسانيد الموافق لصريح المعقول، المطابق لأخبار النبوات الأولى، الذي شهدت الطبيعيات الحديثة بصدقه، مع كونه كتابا في الإلهيات لم ينزل ابتداء لبيان نظريات العلوم الكونية أو الإنسانية، ومع ذلك لم يخل من أوجه للإعجاز العلمي، مصداق قوله تعالى: (سَنُرِيهِمْ آَيَاتِنَا فِي الْآَفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ)، لتقوم به الحجة حتى على عباد العلم التجريبي من الطبائعيين والعلمانيين.

فركز أولئك على جانب: (قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مثلكم)، في مقابل إهمال لجانب: (يُوحَى إِلَيَّ).

والنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، كما تقدم، قد حيزت له أوصاف الزعامة، ومع ذلك كان أزهد الناس فيها، ولعل ذلك مما زاده شرفا، فقد كان لفتيان من قريش كأبي الحكم عمرو بن هشام المخزومي: "أبو جهل"، من الشرف ما حملهم على طلب الزعامة، فلما بعث النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم نقم عليه أشراف قريش فقالوا: (لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآَنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ)، إذ رسالته ناسخة لزعاماتهم، فسلطان الرسول من سلطان مرسِله، والنبي إنما يحكم بما أراه الله عز وجل: (إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا)، وليس ذلك إلى أحد سواه، وإن كان أعظم رجالات الأمة بعد نبيها صلى الله عليه وعلى آله وسلم كالصديق والفاروق وذي النورين وأبي الحسنين، رضي الله عنهم جميعا، وأولئك رجال، لم يختلف عقلاء الملل، إلا فئام من سفهاء أهل القبلة، في عظمتهم، ولكن شتان: من يأتيه الوحي مشرعا ومقررا، ومن يحكم برأيه ولا يألوا جهده نصحا لرعيته، فمهما أوتي من صحة في القصد وجودة في الرأي، فلا عصمة لحكمه، فكل يستدل لقوله، إلا المعصوم صلى الله عليه وعلى آله وسلم الذي يستدل بقوله دون حاجة إلى دليل عليه، فقد ورد الدليل ابتداء على وجوب طاعته استقلالا: (وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا)، و: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ)، فأفرده بعامل الطاعة: "أطيعوا"، كما أفرد ذاته القدسية ورد الأمر إليه، عز وجل، وإلى رسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم عند حدوث النزاع، دون غيرهما، فيرد إلى القرآن الذي بلغه، ويرد إليه في حياته، وإلى سنته بعد وفاته.

وقد عاش صلى الله عليه وعلى آله وسلم بين ظهراني قريش: أربعين سنة: كانت كافية لبيان سريرته، فإن الأيام تبدي ما كان خافيا، فمهما اجتهد المرء في إخفاء خليقة، فمآلها إلى الظهور والانكشاف:

ومهما تكن عند امرئ من خليقة ******* وإن خالها تخفى على الناس تعلم

فبفلتة لسان عابرة، أو نظرة عين خائنة ............ إلخ، تظهر مكنونات الصدور، وفي معجم الطبراني الأوسط بسند متكلم فيه من حديث جندب بن سفيان، رضي الله عنه، مرفوعا: (ما أسر عبد سريرة إلا ألبسه الله رداءها، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر).

وأما محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم فهو الرجل الذي حير قريشا أمره فقال النضر بن الحارث: (إنه والله قد نزل بكم أمر ما أتيتم له بحيلة بعد. قد كان محمد فيكم غلاماً حدثاً، أرضاكم فيكم، وأصدقكم حديثاً، وأعظمكم أمانة، حتى إذا رأيتم في صدغيه الشيب، وجاءكم بما جاءكم به قلتم: ساحر! لا والله، ما هو بساحر. لقد رأينا السحرة ونفثهم وعقدهم. وقلتم كاهن! لا والله ما هو بكاهن. قد رأينا الكهنة وتخالجهم، وسمعنا سجعهم. وقلتم: شاعر! لا والله ما هو بشاعر. قد رأينا الشعر، وسمعنا أصنافه كلها هزجه ورجزه. وقلتم: مجنون! لقد رأينا الجنون فما هو بخنقه ولا وسوسته ولا تخليطه. يا معشر قريش، فانظروا في شأنكم، فإنه والله قد نزل بكم أمر عظيم)،

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير