وهو: "الصادق الأمين" الذي استودعته قريش أموالها، حتى بعد بعثته وتكذيبها برسالته، وهو الذي حسم الخلاف يوم وضع الحجر الأسود بعد إعادة بناء الكعبة، فارتضته قريش حكما، وكأن الله، عز وجل، أراد استنطاقها بالحجة الدامغة على صحة رسالته، فإذا كان أرضاكم سيرة، وأحفظكم للأمانات، وأحكمكم في الخصومات، فعلام التكذيب وعدم الانقياد، وهل ترك الكذب عليكم أربعين سنة ليكذب على الله، عز وجل، بعد أن وخط الشيب رأسه؟!!.
والنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وإن كان من باب التجوز: زعيما عظيما وقائدا محنكا، إلا أنه قد بلغ الذروة في ذلك، فتفوق في شتى المناحي الإنسانية، وذلك عين الإعجاز، كما يقول أحد الكتاب المعاصرين من أبناء المدرسة العقلية، فقد أجاد في الرد على أبناء مدرسته، فإن العبقرية لا تتعدى فنا أو اثنين من فنون الحياة، فيبرع الإنسان في علم من العلوم فيكون عبقريا، فعبقري في الطب، وآخر في السياسة، وثالث في الحرب، وربما اجتمع له النبوغ في اثنين أو أكثر، وربما كان موسوعيا، وربما كان ذا قدم راسخة في العلم والعمل معا، وقل من يجتمع له ذلك، ولكنه لن يصل أبدا إلى مرتبة الإعجاز: إعجاز النبوة: فتلك مرتبة وهبية لا كسب فيها، بخلاف العبقرية التي تكتسب بالمدارسة والممارسة.
وليست زعامة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: زعامة أرضية، كزعامة فلان أو فلان من الثوار، فليس النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: "جيفارا" العرب!!، وليس النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قائدا لانقلاب عسكري على الملكية القرشية الرجعية، فهو: مقرر للوحي، حاكم بالشرع، فرسالته ليست ثورة بلشفية على قيصرية قرشية، كما فسرها بذلك بعض المخرفين من أبناء المدرسة المادية في تفسير التاريخ. وأولئك إنما سعوا إلى إقامة إمبراطوريات ودول بل ودويلات خاصة، كما وقع في مصر في أواسط القرن الماضي، فنقلوا الناس من سخرة مزارع الإقطاع إلى سخرة مصانع الثورة، فأصبحت الشعوب عبيدا لهم بعد أن كانت عبيدا للقياصرة، فباسم الأمة واسم الشعب واسم الدولة واسم الحزب تصادر الحريات ويسخر العباد لتحقيق مطامع العباد، فلا غاية إلا زيادة الإنتاج، ولو على حساب كرامة الإنسان، وتلك سمة بارزة في المناهج الأرضية التي تحقر من شأن الروح، فلا ترى في الإنسان إلا آلة تستهلك في تحصيل شهوات فانية، أو تحقيق مكاسب عاجلة.
وأما الرسالة فإنها تخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد.
وصاحب الرسالة السماوية: يريد رجالا حوله، وزعيم الثورة الأرضية يريد أقزاما حوله لئلا ينازعه أحد ملكه، ولعل حال ساسة العصر خير شاهد على ذلك، فالويل لمن حدثته نفسه بالنبوغ، فذلك كاف في استجلاب سخط الزعيم الملهم عليه، وعقوبات النفي والعزل وتحديد الإقامة ........... إلخ سمة بارزة في قانون عقوبات طواغيت الأرض.
ومن السيرة النبوية لابن كثير رحمه الله:
قال ابن إسحاق: فحدثت عن رجال من بنى سلمة، أنهم ذكروا أن الحباب ابن منذر بن الجموح قال: يا رسول الله أرأيت هذا المنزل، أمنزلا أنزلكه الله ليس لنا أن نتقدمه ولا نتأخر عنه، أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟
قال: بل هو الرأي والحرب والمكيدة.
قال: يا رسول الله، فإن هذا ليس بمنزل، فامض بالناس حتى نأتي أدنى ماء من القوم فننزله، ثم نغور ما وراءه من القلب، ثم نبني عليه حوضا فنملؤه ماء، ثم نقاتل القوم فنشرب ولا يشربون.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم، (وهو محل الشاهد): "لقد أشرت بالرأي"
فلم ينسبها صلى الله عليه وعلى آله وسلم لنفسه على طريقة: بناء على تعليمات وتوجيهات فلان وفلان من الساسة والرؤساء!!!، ولم يصدر أمرا بنفي الحباب، رضي الله عنه، أو تحديد إقامته، خوفا من نبوغه العسكري، وإنما استحسن قوله وسدد رأيه، فهو، كما تقدم، يربي رجالا ستوكل إليهم بعد ذلك مهمة حمل الرسالة إلى أمم الأرض، لا أقزاما يسبحون بحمد الزعيم ليل نهار!
¥