فعن الفضل بن عميرة أن الأحنف بن قيس قدم على عمر بن الخطاب في وفد من العراق قدموا عليه في يوم صائف شديد الحر وهو متحجز بعباءة يهنأ بعيرا من إبل الصدقة فقال: يا أحنف ضع ثيابك وهلم وأعن أمير المؤمنين على هذا البعير فإنه من إبل الصدقة فيه حق اليتيم والأرملة والمسكين، فقال رجل: يغفر الله لك يا أمير المؤمنين فهلا تأمر عبدا من عبيد الصدقة فيكفيك هذا؟ فقال عمر: يا ابن فلانة وأي عبد هو أعبد مني ومن الأحنف بن قيس هذا، إنه من ولي أمر المسلمين فهو عبد للمسلمين يحب عليه لهم ما يحب على العبد لسيده من النصيحة وأداء الأمانة!.
وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: رأيت عمر بن الخطاب يغدو على قتب، فقلت: يا أمير المؤمنين، إلى أين؟ فقال: بعير ند من الصدقة أطلبه. فقلت: لقد أذللت الخلفاء بعدك يا أمير المؤمنين. فقال: لا تلمني يا أبا الحسن، فوالذي بعث محمداً بالنبوَّة لو أن سخلة ذهبت بشاطئ الفرات لأخذ بها عمر يوم القيامة إنه لا حرمة لوالٍ ضيع المسلمين.
وروى البيهقي، رحمه الله، في "معرفة السنن والآثار" من طريق الشافعي، رحمه الله، عن مولى لعثمان، رضي الله عنه، قال: بينا أنا مع عثمان في ماله بالعالية في يوم صائف، إذ رأى رجلا يسوق بكرين، وعلى الأرض مثل الفراش من الحر، فقال: ما على هذا لو قام بالمدينة حتى يبرد ثم يروح، ثم دنا الرجل، فقال: انظر، فنظرت، فإذا عمر بن الخطاب فقلت: هذا أمير المؤمنين، فقام عثمان فأخرج رأسه من الباب، فإذا لفح السموم، فأعاد رأسه حتى حاذاه، فقال: ما أخرجك هذه الساعة؟ فقال: بكران من إبل الصدقة تخلفا، وقد مضى بإبل الصدقة، فأردت أن ألحقهما بالحمى، وخشيت أن يضيعا فيسألني الله عنهما، فقال عثمان: يا أمير المؤمنين، هلم إلى الماء والظل ونكفيك، فقال: عد إلى ظلك، فقلت: عندنا من يكفيك، فقال: عد إلى ظلك، فمضى، فقال عثمان: من أحب أن ينظر إلى القوي الأمين، فلينظر إلى هذا، فعاد إلينا فألقى نفسه.
والمقارنة بين عمر وساركوزي قد تبدو نوعا من العبث لمن عرف حقيقة الرجلين، فالشمس لا تحتاج دليلا، ولكن كثيرا منا اليوم صار يفتقر إلى الدليل على بروز الشمس في رابعة النهار.
وأخلاق عمر رضي الله عنه: أخلاق إلهية مستندها الوحي السماوي، وأخلاق ساركوزي: أخلاق نفعية مستندها الدستور الأرضي، وعلى العاقل أن يختار لنفسه.
والأخلاق الأوروبية: أخلاق آلية ميكانيكية، إن صح التعبير، فمراد الجماعة من الفرد: إنتاجه لا أخلاقه وصلاح حاله، فهي تنظم علاقة الأفراد داخل الجماعة، ولو فسد حال الأفراد، فالمهم هو: العائد من ورائهم، وكأن الفرد: ترس في ماكينة إذا عطب ألقي في سلة المهملات. يصف لي أحد الفضلاء من جيراننا، وقد سافر إلى دولة: "النمسا" في رحلة عمل قصيرة، وقد صارت تلك الدولة محط الأنظار في الأيام الأخيرة بعد الجريمة الإنسانية البشعة التي ارتكبها أب نمساوي في حق ابنته التي احتجزها نحو 25 سنة في قبو منزله واعتدى عليها مرارا وتكرارا حتى وضعت منه سفاحا سبعة أولاد!، يصف لي ذلك الجار الفاضل مجتمع النمسا المرفه بقوله: هي منتجع أوروبا كما أن سويسرا هي بنك أوروبا، فالمال في الثانية، والمتعة والعربدة في الأولى: مجتمع يتعامل أفراده مع الزوار بلباقة متناهية وأدب جم، ولكنهم على المستوى الشخصي، وهذا لفظ جاري: حيوانات!، فالأخلاق: اجتماعية تنظم الحياة اليومية، وإن فسدت أخلاق الأفراد كما تقدم.
وأما الإسلام: فهو لا يعرف هذه الازدواجية فالأخلاق عنده منظومة واحدة، وذلك ما يباين التشريع السماوي فيه التشريع الأرضي، فالأول: يصل العبد بربه، عز وجل، صلة تزكي روحه وتغذي قلبه، ويصله بمجتمعه صلة تستند إلى خشية الله، عز وجل، ومراقبته، بينما الثاني غايته أن يصل الفرد بمجتمعه صلة تستند إلى المنفعة المحضة وخشية القانون، وإن اتسمت باللباقة والأدب.
فالإسلام يريد: أزكياء طاهرين، أذكياء نافعين، بينما غيره من المناهج لا يريد إلا الذكاء المادي النافع.
والله أعلى وأعلم.
ـ[هشام محب العربية]ــــــــ[24 - 03 - 2009, 06:33 م]ـ
أخي العزيز مهاجر
السلام عليكم ورحمة الله،
يعجبني ما تكتب وأتابعه على قدر استطاعتي، أختلف معك قليلا في بعض النقاط ولكن هذا لا يقلل إعجابي بما تكتب.
وفقك الله.
والسلام عليكم.
ـ[مهاجر]ــــــــ[25 - 03 - 2009, 07:48 ص]ـ
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
جزاك الله خيرا أخي الحبيب هشام ووفقك وبارك فيك وهون عليك غربتك.
وأنت أدرى مني بواقع المجتمع الغربي بصفتك مقيما في إحدى دوله، فلا تخلو كلماتي أحيانا من تعميم، إذ ليس من سمع كمن رأى، فأهل كندا أدرى بشعابها!!، وقد قرأت عن كندا أنها على العكس من جارتها الجنوبية، تلتزم الحياد في تعاملها مع الأديان عامة والإسلام خاصة، وإن كان منطلقها في ذلك علمانيا محضا، ولكن يبقى أنها في ذلك أحسن من جارتها زعيمة الهجمة الصليبية الشرسة على الشرق المسلم، وإن كان لا يخفى عليك مشاركة كندا في حرب الناتو في بلاد الأفغان، وهي مع ذلك لا تريد المضي قدما مع أمريكا في هزيمتها المحققة، إن شاء الله، فهي، إن لم تخني الذاكرة، تعتزم الانسحاب بحلول 2011، وبانتظار معلومات أدق عن المجتمع الكندي تزيد الصورة وضوحا عن المجتمع الغربي المعاصر. وأنت خير من يستفتى في ذلك يا باش مهندس!:):)