وقوله عليه السلام: «وما يدريك أنها رقية» يدل أن فى القرآن ما يخص الرقى وأن فيه ما لا يخصها، وإن كان القرآن كله مرجو البركة من أجل أنه كلام الله، لكن إذا كان فى الآية تعوذ بالله أو دعاء كان أخص بالرقية ما ليس فيه ذلك، وإنما أراد النبى - عليه السلام - بقوله: «وما يدريك أنها رقية» أن يختبر علمه بذلك؛ لأنه ربما خفى موضعها فى الحمد، و قوله: {وإياك نستعين} هو الموضع الذى فيه الرقية؛ لأن الاستعانة به تعالى على كشف الضر، وسؤال الفرج والتبرؤ إليه من الطاقة، والإقرار بالحاجة إليه وإلى عونه هو فى معنى الدعاء.
ويحتمل أن يكون الراقى إنما رقى بالحمد لله لما علم أنها ثناء على الله، فاستفتح رقيته بالثناء رجاء الفرج، كما يرجى فى الاستفتاح به فى الدعاء الإجابة، ولذلك قال إبراهيم التيمى: إذا بدأ الرجل بالثناء قبل الدعاء فقد استوجب، وإذا بدأ بالدعاء قبل الثناء كان على الرجاء (شرح ابن بطال)
وكيف نفسر حينها قوله " وما يدريك أنها رقية؟ "
يقول الحافظ في الفتح
وَهِيَ كَلِمَة تُقَال عِنْد التَّعَجُّب مِنْ الشَّيْء وَتُسْتَعْمَل فِي تَعْظِيم الشَّيْء أَيْضًا وَهُوَ الَائِق هُنَا
قَوْله: (ثُمَّ قَالَ قَدْ أَصَبْتُمْ)
يَحْتَمِل أَنْ يَكُون صَوَّبَ فِعْلهمْ فِي الرُّقْيَة، وَيَحْتَمِل أَنَّ ذَلِكَ فِي تَوَقُّفهمْ عَنْ التَّصَرُّف فِي الْجُعْل حَتَّى اِسْتَأْذَنُوهُ وَيَحْتَمِل أَعَمّ مِنْ ذَلِكَ.
وفي هذا الحديث فوائد مهمة ذكر الحافظ أيضا
وَفِي الْحَدِيث جَوَاز الرُّقْيَة بِكِتَابِ اللَّه، وَيَلْتَحِق بِهِ مَا كَانَ بِالذِّكْرِ وَالدُّعَاء الْمَأْثُور، وَكَذَا غَيْر الْمَأْثُور مِمَّا لَا يُخَالِف مَا فِي الْمَأْثُور، وَأَمَّا الرُّقَى بِمَا سِوَى ذَلِكَ فَلَيْسَ فِي الْحَدِيث مَا يُثْبِتهُ وَلَا مَا يَنْفِيه وَسَيَأْتِي حُكْم ذَلِكَ مَبْسُوطًا فِي كِتَاب الطِّبّ.
وَفِيهِ مَشْرُوعِيَّة الضِّيَافَة عَلَى أَهْل الْبَوَادِي وَالنُّزُول عَلَى مِيَاه الْعَرَب وَطَلَب مَا عِنْدهمْ عَلَى سَبِيل الْقِرَى أَوْ الشِّرَاء،
وَفِيهِ مُقَابَلَة مَنْ اِمْتَنَعَ مِنْ الْمَكْرُمَة بِنَظِيرِ صَنِيعه لِمَا صَنَعَهُ الصَّحَابِيّ مِنْ الِامْتِنَاع مِنْ الرُّقْيَة فِي مُقَابَلَة اِمْتِنَاع أُولَئِكَ مِنْ ضِيَافَتهمْ، وَهَذِهِ طَرِيق مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام فِي قَوْله تَعَالَى (لَوْ شِئْت لَاِتَّخَذْت عَلَيْهِ أَجْرًا) وَلَمْ يَعْتَذِر الْخَضِر عَنْ ذَلِكَ إِلَّا بِأَمْرٍ خَارِجِيّ.
وَفِيهِ إِمْضَاء مَا يَلْتَزِمهُ الْمَرْء عَلَى نَفْسه لِأَنَّ أَبَا سَعِيد اِلْتَزَمَ أَنْ يَرْقِيَ وَأَنْ يَكُون الْجُعْل لَهُ وَلِأَصْحَابِهِ وَأَمَرَهُ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْوَفَاءِ بِذَلِكَ.
وَفِيهِ الِاشْتِرَاك فِي الْمَوْهُوب إِذَا كَانَ أَصْله مَعْلُومًا،
وَجَوَاز طَلَب الْهَدِيَّة مِمَّنْ يُعْلَم رَغْبَته فِي ذَلِكَ وَإِجَابَته إِلَيْهِ.
وَفِيهِ جَوَاز قَبْض الشَّيْء الَّذِي ظَاهِره الْحِلّ وَتَرْك التَّصَرُّف فِيهِ إِذَا عَرَضَتْ فِيهِ شُبْهَة.
وَفِيهِ الِاجْتِهَاد عِنْد فَقْد النَّصّ وَعَظَمَة الْقُرْآن فِي صُدُور الصَّحَابَة خُصُوصًا الْفَاتِحَة،
وَفِيهِ أَنَّ الرِّزْق الْمَقْسُوم لَا يَسْتَطِيع مَنْ هُوَ فِي يَده مَنْعه مِمَّنْ قُسِمَ لَهُ لِأَنَّ أُولَئِكَ مَنَعُوا الضِّيَافَة وَكَانَ اللَّه قَسَمَ لِلصَّحَابَةِ فِي مَالهمْ نَصِيبًا فَمَنَعُوهُمْ فَسَبَّبَ لَهُمْ لَدْغ الْعَقْرَب حَتَّى سِيقَ لَهُمْ مَا قُسِمَ لَهُمْ.
وَفِيهِ الْحِكْمَة الْبَالِغَة حَيْثُ اِخْتَصَّ بِالْعِقَابِ مَنْ كَانَ رَأْسًا فِي الْمَنْع، لِأَنَّ مِنْ عَادَة النَّاس الِائْتِمَار بِأَمْرِ كَبِيرهمْ، فَلَمَّا كَانَ رَأْسهمْ فِي الْمَنْع اُخْتُصَّ بِالْعُقُوبَةِ دُونهمْ جَزَاء وِفَاقًا، وَكَأَنَّ الْحِكْمَة فِيهِ أَيْضًا إِرَادَة الْإِجَابَة إِلَى مَا يَلْتَمِسهُ الْمَطْلُوب مِنْهُ الشِّفَاء وَلَوْ كَثُرَ، لِأَنَّ الْمَلْدُوغ لَوْ كَانَ مِنْ آحَاد النَّاس لَعَلَّهُ لَمْ يَكُنْ يَقْدِر عَلَى الْقَدْر الْمَطْلُوب مِنْهُمْ.
ـ[**ينابيع الهدى**]ــــــــ[03 - 04 - 2009, 05:27 م]ـ
¥