"وقال ابن عباس وعمر بن عبد العزيز ومجاهد: هي محكمة، أي قاتلوا الذين هم بحالة من يقاتلونكم، ولا تعتدوا في قتل النساء والصبيان والرهبان وشبههم". اهـ
"الجامع لأحكام القرآن"، (2/ 312).
وقال ابن كثير رحمه الله:
"قوله: {الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ} إنما هو تَهْييج وإغراء بالأعداء الذين همّتْهم قتال الإسلام وأهله، أي: كما يقاتلونكم فقاتلوهم أنتم، كما قال: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً} [التوبة: 36]؛ ولهذا قال في هذه الآية: {وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ} أي: لتكن همتكم منبعثة على قتالهم، كما أن همتهم منبعثة على قتالكم، وعلى إخراجهم من بلادهم التي أخرجوكم منها، قصاصًا". اهـ
وعلى كلا القولين، فإن ذلك لا يعارض تشريع جهاد الطلب حال تمكن المسلمين من ذلك، لإيصال الرسالة إلى بقية الأمم إقامة للحجة ودرءا للشبهة، فمن رضي الإسلام كف عنه، ومن أبى دفع الجزية صاغرا، ومن قاتل قوتل. ولا ضير في ذلك، إذ لو كان المراد القتل والتخريب ابتداء، كما يصنع أعداء الإسلام اليوم بديار المسلمين المحتلة، ما احتجنا إلى هذه المراحل، وما كففنا أيدينا عن قتل من لا يحل قتله، وتاريخ الرق الإسلامي في مقابل تاريخ الرق الإنساني حكم عدل بين المسلمين وأعدائهم.
فلو قيل بأن هذه الآية منسوخة بآيات جهاد الطلب، فإن تلك الآيات تكون مؤسسة لحكم جديد، ولو قيل بأنها ليست منسوخة، على التفصيل السابق، فإن آيات جهاد الطلب تكون مؤكدة لمعنى قتال من هم بصدد قتال المسلمين من أعدائهم، فالصراع بين الحق والباطل حتمي. والقول بعدم النسخ أولى، إعمالا لجميع النصوص، طالما أمكن الجمع بينها، وهذا أصل مطرد في النظر في النصوص التي ظاهرها التعارض.
وهو الاختيار الأول للشيخ الشنقيطي، رحمه الله، في "دفع إيهام الاضطراب"، إذ يقول:
"قوله تعالى: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا} الآية , هذه الآية تدل بظاهرها على أنهم لم يؤمروا بقتال الكفار إلا إذا قاتلوهم , وقد جاءت آيات أخر تدل على وجوب قتال الكفار مطلقا؛ قاتلوا أم لا , كقوله تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ}، وقوله: {فَإِذَا انْسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ} , وقوله تعالى: {تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ}.
والجواب عن هذه بأمور:
الأول: - وهو من أحسنها وأقربها - أنّ المراد بقوله: {الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ} تهييج المسلمين , وتحريضهم على قتال الكفار , فكأنه يقول لهم: هؤلاء الذين أمرتكم بقتالهم هم خصومكم وأعداؤكم الذين يقاتلونكم , ويدل لهذا المعنى قوله تعالى: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً} , وخير ما يفسر به القرآن القرآن". اهـ
ثم أشار إلى الوجه الثاني الذي درج عليه كثير من أهل العلم وهو القول بالنسخ فقال:
"الوجه الثاني: أنها منسوخة بقوله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} , وهذا من جهة النظر ظاهر حسن جدا , وإيضاح ذلك أنّ من حكمة الله البالغة في التشريع أنه إذا أراد تشريع أمر عظيم على النفوس ربما يشرعه تدريجيا لتخف صعوبته بالتدريج". اهـ
ثم أشار غلى وجه يشمل الوجه الأول ويزيد عليه وهو اختيار الطبري، رحمه الله، فقال:
"الوجه الثالث: وهو اختيار بن جرير , ويظهر لي أنه الصواب: أن الآية محكمة , وأن معناها: قاتلوا الذين يقاتلونكم أي من شأنهم أن يقاتلوكم , أما الكافر الذي ليس من شأنه القتال كالنساء , والذراري , والشيوخ الفانية , والرهبان , وأصحاب الصوامع , ومن ألقى إليكم السلم , فلا تعتدوا بقتالهم؛ لأنهم لا يقاتلونكم , ويدل لهذا الأحاديث المصرحة بالنهي عن قتال الصبي , وأصحاب الصوامع , والمرأة , والشيخ الهرم إذا لم يستعن برأيه , أما صاحب الرأي فيقتل كدريد بن الصمة , وقد فسر هذه الآية بهذا المعنى عمر بن العزيز رضي الله عنه وابن عباس والحسن البصري". اهـ
¥