بتصرف من: "دفع الإيهام"، ص37_39.
رابعا: الأمر بجهاد الطلب، كما تقدم في قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ).
فالمراحل على قول بعض أهل العلم: ناسخة لبعضها البعض، فتحريم في مكة، فإذن، فجهاد دفع، فجهاد طلب.
والنسخ في عرف المتقدمين يطلق على كل زيادة، وإن لم تكن ناسخة بالمعنى الاصطلاحي المعروف الذي يلزم منه رفع الحكم المتقدم بالحكم المتأخر، فزيادة الحكم في مسألة لا يلزم منها نسخ بقية الأحكام، إذ قد يكون في المسألة أكثر من صورة، ولكل صورة حكم، فلا تتعارض الأحكام، وإنما تتكامل، وإعمال النصوص أولى من إهمالها، كما قرر ذلك أهل العلم. فتكون آيات القتال على الصحيح من أقوال المحققين من أهل العلم: منسوءة لا منسوخة، فلكل حال حكم، فليست صورة القتال: قتال طلب فقط باعتبار كونه ناسخا لما قبله، فيؤمر المسلمون بغزو عدوهم وإن كانوا قلة مستضعفة يخشى فناؤها في قتال غير متكافئ، وإنما لكل صورة حكم، فأحيانا تكون المصلحة الشرعية في كف الأيدي وتحريم القتال، كما كان حال الفئة المستضعفة في مكة، إذ لو حملوا على قريش، لأفنتهم، والشريعة إنما يقام بنيانها على ملاحظة الأسباب، فليس من الحكمة إقحام المسلمين ابتداء في معارك غير متكافئة، بخلاف ما لو دهم العدو أرضهم، كما حدث في نازلة غزة الماضية، فلا مناص حينئذ من حمل السلاح دفعا للعدو عن محلة المسلمين.
وأحيانا يكون الأمر: أمر دفع، فيؤمر أهل المحلة كلهم بدفع عدوهم إن دهم أرضهم كل حسب استطاعته.
فإذا قويت شوكة المسلمين وصارت لهم الدولة وجب عليهم تجييش الجيوش وبدء العدو بالقتال، وجوبا كفائيا، فصار الحكم منوطا بعلله المختلفة التي تختلف باختلاف صوره، فمتى وجدت علة نوع من القتال وجد حكمه، ومتى تخلفت تخلف حكمه.
وإلى طرف مما سبق أشار القرطبي، رحمه الله، بقوله:
"وقال الجمهور من الأمة: أول فرضه إنما كان على الكفاية دون تعيين، غير أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا استنفرهم تعين عليهم النفير لوجوب طاعته ............... قال ابن عطية: والذى استمر عليه الإجماع أن الجهاد على كل أمة محمد صلى الله عليه وسلم فرض كفاية، فإذا قام به من قام من المسلمين سقط عن الباقين، إلا أن ينزل العدو بساحة الإسلام فهو حينئذ فرض عين". اهـ
بتصرف من: "الجامع لأحكام القرآن"، (3/ 35).
وذلك التفاوت يقع أيضا في حكم الجهاد فإنه قد يكون محرما في حق بعض المكلفين، كجهاد التطوع بلا إذن الأبوين، وقد يكون مستحبا باعتبار الأفراد واجبا كفائيا باعتبار الجماعة، في أزمنة القوة والتمكين، وقد يكون واجبا عينيا، كجهاد الدفع إذا دهم العدو المحلة، كما تقدم، وكتعيين الإمام، إن كان للمسلمين إمام، مكلفاً بعينه، فإنه يصير حينئذ واجبا في حقه، فلا يسعه التخلف وإن لم يجب على غيره، فالأحكام تتفاوت تبعا لتفاوت أحوال المكلفين، وكحضور القتال فيحرم التولي إلا انحيازا إلى فئة.
&&&&&
وأما الآيات التي يستقطع منها أجزاء على وزان: لا تقربوا الصلاة!، من قبيل:
قوله تعالى: (فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا (88) وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا)
¥