تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

الدين مقدم على حفظ النفس، ولذلك شرع الجهاد ذبا عن الملة بالدفع ونصرة لها بالطلب إذا كان للمسلمين به طاقة، وهو مظنة إتلاف النفس، إذ ضرورة حفظ الدين آكد من ضرورة حفظ النفس، ولو نظرنا إليها من وجهة نظر عملية، من باب النافلة بعد فريضة التسليم لحكم الشرع اللازم، فإن حفظ الدين في حقيقته: حفظ للنفوس عامة، بل حفظ لكل الضروريات الأخرى، فبالدين تنزجر النفوس عن التعدي على الحرمات والأموال، فإذا حفظ كان ذلك بمنزلة حفظ القانون العام الذي يحفظ أمن المجتمع، فيعود ذلك بالنفع العام على أفراده، وذلك بطبيعة الحال أولى بالاعتبار من حفظ نفس غير معصومة جاهر صاحبها بما يبيح دمه درءا لفتنته، ومع ذلك شرعت استتابته لعله يرجع عن غيه، فإذا تكررت ردته فحكمه القتل عند جمع من أهل العلم إذ تلاعبه بالدين مظنة الزندقة والسكوت عنه مظنة إغراء غيره من الجبناء الذين استتروا بمقالاتهم، فلا يظهرونها إلا في أزمنة الضعف، كما هو الحال في الأعصار المتأخرة.

وكذلك يقال في السارق، فإن يده قبل السرقة شريفة عظيمة القدر، في قطعها، القصاص، أو نصف الدية إن عفا المقطوع: 500 دينار من الذهب، والدينار يساوي بالمقياس المعاصر أربعة جرامات ونصف، وتلك ثروة وإن كانت لا تساوي اليد المقطوعة، ولذلك لم يعدل عن القصاص إلا برضا صاحبه، وهي بعد السرقة: مهينة حقيرة القدر تقطع في ربع دينار فقط، حفظا لضرورة المال التي لا تعتبر معها حرمة اليد إن فرط فيها صاحبها. وبذلك رد أهل العلم على "كلب معرة النعمان" كما يسميه ابن القيم، رحمه الله، في "طريق الهجرتين": التائه الحائر الضال: أبي العلاء المعري، الأديب المعروف، الذي أوتي من اللسان قدرا شريفا، ولم يؤت في الديانة إلا دينا رقيقا وإلى طرف من ذلك أشار ابن كثير، رحمه الله، بقوله:

"وقد ذكروا أن أبا العلاء المَعرِّي، لما قدم بغداد، اشتهر عنه أنه أورد إشكالا على الفقهاء في جعلهم نصاب السرقة ربع دينار، ونظم في ذلك شعرًا دل على جهله، وقلة عقله فقال:

يَدٌ بخمس مئين عسجد وديَتُ ******* ما بالها قُطعَتْ في رُبْع دينار

تَناقض ما لنا إلا السكوت له ******* وأن نَعُوذ بمَوْلانا من النارِ

ولما قال ذلك واشتهر عنه تَطَلّبه الفقهاء فهرب منهم. وقد أجابه الناس في ذلك، فكان جواب القاضي عبد الوهاب المالكي، رحمه الله، أنه قال: لما كانت أمينة كانت ثمينة، فلما خانت هانت. ومنهم من قال: هذا من تمام الحكمة والمصلحة وأسرار الشريعة العظيمة، فإنه في باب الجنايات ناسب أن تعظم قيمة اليد بخمسمائة دينار لئلا يُجْنى عليها، وفي باب السرقة ناسب أن يكون القدر الذي تقطع فيه ربع دينار لئلا يتسارع الناس في سرقة الأموال، فهذا هو عين الحكمة عند ذوي الألباب". اهـ

وما أكثر كلاب المعرة!، كما يقول بعض الفضلاء المعاصرين ممن اقتدوا بإمامهم إبليس فعارضوا نصوص التنزيل الصحيحة الصريحة بأقيسة العقول الفاسدة المريضة، فلسان مقال إبليس: (أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ)، ولسان مقالهم إذا ما دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم: عقولنا خير من التنزيل فدلالتها قطعية جازمة، ودلالة التنزيل ظنية محتملة، ولكل من خالف التنزيل نصيب من ذلك القياس الإبليسي الفاسد.

والله أعلى وأعلم.

ـ[ناجى أحمد اسكندر]ــــــــ[18 - 08 - 2009, 06:40 م]ـ

طرح رائع أستاذنا المفضال وفى موازين حسناتك ونحن نتشوق لمزيد من موضوعاتك المتميزة والقيمة، دمت مبدعاً متألقاً أستاذ مهاجر ولا حرمنا مشاركاتك.

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير