والباب الأعلى أوسع من الأسفل إذ الأعلى مدخل للحاصل، والأسفل مصرف للضار منه، والأسفل منطبق دائما؛ ليستقر الطعام في موضعه. فإذا انتهى الهضم فإن ذلك الباب ينفتح إلى انقضاء الدفع!
ويسمى البواب لذلك، والأعلى يسمى فم المعدة. والطعام ينزل إلى المعدة متكيمسا، فإذا استقر فيها انماع، وذاب!
ويحيط بالمعدة من داخلها وخارجها حرارة نارية. بل ربما تزيد على حرارة النار ينضج بها الطعام فيها، كما ينضج الطعام في القدر بالنار المحيطة به!
ولذلك يذيب ما هو مستحجر كالحصا وغيره حتى يتركه مائعا، فإذا أذابته علا صفوه إلى فوق، ورسا كدره إلى أسفل!
ومن المعدة عروق متصلة بسائر البدن يبعث فيها معلوم كل عضو، وقوامه بحسب استعداه وقبوله، فيبعث أشرف ما في ذلك، وألطفه، وأخفه إلى الأرواح!
فيبعث إلى البصر بصرا، وإلى السمع سمعا، وإلى الشم شما، وإلى كل حاسة بحسبها!
فهذا ألطف ما يتولد عن الغذاء، ثم ينبعث منه إلى الدماغ ما يناسبه في اللطافة والاعتدال، ثم ينبعث من الباقي إلى الأعضاء في تلك المجاري بحسبها!
وينبعث منه إلى العظام والشعر والأظفار ما يغذيها، ويحفظها. فيكون الغذاء داخلا إلى المعدة من طرق ومجار، وخارجا منها إلى الأعضاء من طرق ومجار.
هذا وارد إليها، وهذا صادر عنها!
حكمة بالغة ونعمة سابغة!
ولما كان الغذاء إذا استحال في المعدة استحال دما، ومرة سوداء، ومرة صفراء، وبلغما، اقتضت حكمته سبحانه وتعالى أن جعل لكل واحد من هذه الأخلاط مصرفا ينصب إليه، ويجتمع فيه، ولا ينبعث إلى الأعضاء الشريفة إلا أكمله!
فوضع المرارة مصبا للمرة الصفراء!
ووضع الطحال مقرا للمرة السوداء!
والكبد تمتص أشرف ما في ذلك، وهو الدم، ثم تبعثه إلى جميع البدن من عرق واحد ينقسم على مجار كثيرة!
يوصل إلى كل واحد من الشعور والأعصاب والعظام والعروق ما يكون به قوامه!
ثم إذا نظرت إلى ما فيه من القوى الباطنة، والظاهرة المختلفة في أنفسها، ومنافعها رأيت العجب العجاب!
كقوة سمعه، وبصره، وشمه، وذوقه، ولمسه، وحبه، وبغضه، ورضاه، وغضبه، وغير ذلك من القوى المتعلقة بالإدراك والإرادة! وكذلك القوى المتصرفة في غذائه، كالقوة المنضجة له، وكالقوة الماسكة له، والدافعة له إلى الأعضاء، والقوة الهاضمة له بعد أخذ الأعضاء حاجتها منه. إلى غير ذلك من عجائب خلقته الظاهرة والباطنة.
فارجع الآن إلى النطفة، وتأمل حالها أولا ... .
سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم!
لنا عودة مع ابن القيم والتفكر في خلق الإنسان إن شاء الله.
ـ[أبوأيوب]ــــــــ[08 - 09 - 2009, 03:18 ص]ـ
فصل فارجع الآن إلى النطفة وتأمل حالها أولا وما صارت إليه ثانيا
وأنه لو اجتمع الإنس والجن على أن يخلقوا لها سمعا أو بصرا أو عقلا أو قدرة أو علما أو روحا.
بل عظما واحدا من أصغر عظامها. بل عرقا من أدق عروقها. بل شعرة واحدة، لعجزوا عن ذلك!
بل ذلك كله آثار صنع الله الذي أتقن كل شيء في قطرة من ماء مهين، فمن هذا صنعه في قطرة ماء، فكيف صنعه في ملكوت السموات وعلوها وسعتها واستدارتها وعظم خلقها، وحسن بنائها، وعجائب شمسها وقمرها وكواكبها، ومقاديرها وأشكالها، وتفاوت مشارقها ومغاربها!
فلا ذرة فيها تنفك عن حكمة. بل هي أحكم خلقا، وأتقن صنعا، وأجمع العجائب من بدن الإنسان. بل لا نسبة لجميع ما في الأرض إلى عجائب السموات!
قال الله تعالى: " أأنتم أشد خلقا أم السماء بناها رفع سمكها فسواها ".
وقال تعالى: " إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس " إلى قوله: " لآيات لقوم يعقلون ". فبدأ بذكر خلق السموات!
وقال تعالى: " إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب ".
وهذا كثير في القرآن، فالأرض والبحار والهواء، وكل ما تحت السموات، بالإضافة إلى السموات كقطرة في بحر!
¥