ومن عجائب خلقه ما فيه من الأمور الباطنة التي لا تشاهد كالقلب، والكبد، والطحال، والرئة، والأمعاء، والمثانة، وسائر ما في بطنه من الآلات العجيبة، والقوى المتعددة المختلفة المنافع!
فأما القلب، فهو الملك المستعمل لجميع آلات البدن، والمستخدم لها! فهو محفوف بها محشود مخدوم مستقر في الوسط، وهو أشرف أعضاء البدن، وبه قوام الحياة، وهو منبع الروح الحيواني، والحرارة الغريزية!
وهو معدن العقل، والعلم، والحلم، والشجاعة، والكرم، والصبر، والاحتمال، والحب، والإرادة، والرضا والغضب، وسائر صفات الكمال!
فجميع الأعضاء الظاهرة والباطنة، وقواها إنما هي جند من أجناد القلب!
فإن العين طليعته ورائده الذي يكشف له المرئيات، فإن رأت شيئا أدته إليه!
ولشدة الارتباط الذي بينها وبينه، إذا استقر فيه شيء ظهر فيها، فهي مرآته المترجمة للناظر ما فيه!
كما أن اللسان ترجمانه المؤدي للسمع ما فيه، ولهذا كثيرا ما يقرن سبحانه في كتابه بين هذه الثلاث كقوله تعالى: " إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا ".
وقوله تعالى: " وجعلنا لهم سمعا وأبصارا وأفئدة ".
وقوله تعالى: " صم بكم عمي ".
وقد تقدم ذلك وكذلك يقرن بين القلب والبصر كقوله تعالى: " ونقلب أفئدتهم وأبصارهم ".
وقوله تعالى في حق رسوله محمد صلى الله عليه وسلم: " ما كذب الفؤاد ما رأى " ثم قال: " ما زاغ البصر وما طغى ".
وكذلك الأذن هي رسوله المؤدى إليه، وكذلك اللسان ترجمانه.
وبالجملة فسائر الأعضاء خدمه وجنوده، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " ألا و إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح لها سائر الجسد، وإذا فسدت فسد لها سائر الجسد ألا وهي القلب ".
وقال أبو هريرة رضي الله: القلب ملك، والأعضاء جنوده، فان طاب الملك طابت جنوده، وإذا خبث الملك خبثت جنوده.
وانظر كيف جعلت الرئة له كالمروحة تروح عليه دائما؛ لأنه أشد الأعضاء حرارة. بل هو منبع الحرارة.
وأما الدماغ وهو المخ، فإنه جعل باردا واختلف في حكمة ذاك. فقالت طائفة إنما كان الدماغ باردا؛ لتبريد الحرارة التي في القلب؛ ليردها عن الإفراط إلى الاعتدال. وردت طائفة هذا وقالت لو كان كذلك لم يكن الدماغ بعيدا عن القلب بل كان ينبغي أن يحيط به كالرئة أو يكون قريبا منه في الصدر؛ ليكسر حرارته. قالت الفرقة الأولى بعد الدماغ من القلب لا يمنع ما ذكرناه من الحكمة؛ لأنه لو قرب منه لغلبته حرارة القلب بقوتها، فجعل البعد بينهما بحيث لا يتفاسدان، وتعتدل كيفية كل واحد منهما بكيفية الآخر، وهذا بخلاف الرئة فإنها آلة للترويح على القلب لم تجعل لتعديل حرارته.
وتوسطت فرقة أخرى وقالت: بل المخ حار لكنه فاتر الحرارة، وفيه تبريد بالخاصية. فإنه مبدأ للذهن، ولهذا كان الذهن يحتاج إلى موضع ساكن قار صاف عن الأقذار والكدر خال من الجلبة والزجل.
ولذلك يكون جودة الفكر والتذكر واستخراج الصواب عند سكون البدن، وفتور حركاته، وقلة شواغله ومزعجاته. ولذلك لم يصلح لها القلب، وكان الدماغ معتدلا في ذلك صالحا له. ولذلك تجود هذه الأفعال في الليل، وفي المواضع الخالية، وتفسد عند التهاب نار الغضب والشهوة، وعند الهم الشديد، ومع التعب والحركات القوية البدنية والنفسانية.
وهذا بحث متصل بقاعدة أخرى، وهي أن الحواس والعقل هل مبدؤها القلب والدماغ؟
وفي هذا المقام يطول الكلام، ويكثر الخصام والله اعلم بالصواب، وبه التوفيق.
والمقصود التنبيه على أقل القليل من وجوه الحكمة التي في خلق الإنسان والأمر أضعاف أضعاف ما يخطر بالبال، أو يجرى فيه المقال.
وإذا نظر العبد إلى غذائه فقط في مدخله، ومستقره، ومخرجه رأى فيه العبر والعجائب! كيف جعلت له آلة يتناول بها! ثم باب يدخل منه! ثم آلة تقطعه صغارا! ثم طاحون يطحنه! ثم أُعين بماء يعجنه! ثم جعل له مجرى وطريقا إلى جانب النَّفَس ينزل هذا، ويصعد هذا، فلا يلتقيان مع غاية القرب! ثم جعل له حوايا، وطرقا توصله إلى المعدة. فهي خزانته، وموضع اجتماعه!
ولها بابان:
باب أعلى يدخل منه الطعام، وباب أسفل يخرج منه تفله!
¥