وإِذا علم العبد حقيقة الأَمر، وعرف من أَين أُتي ومن أَي الطرق أُغير على سرحه ومن أَي ثغرة سرق متاعه وسلب استحى من نفسه - إِن لم يستح من الله - أَن يشكو أَحداً من خلقه أَو يتظلمهم أَو يرى مصيبته وآفته من غيره، قال تعالى: {وَمَآ أَصَابَكُمْ مّن مّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ} [الشورى:30]، وقال: {أَوَ لَمّا أَصَابَتْكُمْ مّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنّىَ هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ} [آل عمران: 165]، وقال: {مّآ أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّهِ وَمَآ أَصَابَكَ مِن سَيّئَةٍ فَمِن نّفْسِكَ} [النساء: 79] ". اهـ
ص82، 83.
وقد اقتضت حكمته عز وجل: ألا تستجلب نعمه الكونية إلا بالتزام طريقته الشرعية، على حد قوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: "إنّ رُوحَ الْقُدُسِ نَفَثَ فِي رَوْعِي أَنّهُ لَنْ تَمُوتَ نَفْسٌ حَتّى تَسْتَكْمِلَ رِزْقَهَا فَاتّقُوا اللّهَ وَأَجْمِلُوا فِي الطّلَبِ وَلَا يَحْمِلَنّكُمْ اسْتِبْطَاءُ الرّزْقِ عَلَى أَنْ تَطْلُبُوهُ بِمَعْصِيَةِ اللّهِ فَإِنّ مَا عِنْدَ اللّهِ لَا يُنَالُ إلّا بِطَاعَتِهِ".
فذلك من تمام ابتلائه لعباده بتوارد النعم الكونية عليهم: استدراجا أو تكريما، فلكل سنته، لئلا يقال: فلان من البشر قد أوتي من أسباب الكون ما أوتي مع كونه من أشد الناس إعراضا عن أسباب الشرع، فإن السعة في حقه مع إقامته على المعصية: عرض طارئ لا دوام له، فهو محض ابتلاء يعقبه الأخذ الرباني، فسرعان ما يبتلى بما يفسد عليه حاله: تذكيرا له عله ينزجر، أو استئصالا له إن سبق في علم الرب، جل وعلا، عدم انكفافه، كحال كثير من الطواغيت الذين قُصِموا بكلمات الرب العزيز الغالب.
وأما من حجب عنه حظه الكوني لمخالفة الأمر الشرعي، فإنه لو دقق النظر أحسن حالا من ذلك المفتون، إذ له من انقطاع أسباب الكون نذير يحمله على الرجوع إلى الرب، جل وعلا، على حد ما يقع لكثير من المبتلين في أنفسهم أو أموالهم.
فالشاهد أن حكمته، جل وعلا، قد اقتضت تعليق جريان أسباب الكون بالسعة على التزام أسباب الشرع، على حد ما تقدم من قوله تعالى: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ).
ومع ذلك ليحذر الممتثل لأمر الشرع أن يكون من أهل: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ (15) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ). فإن حصول النعمة الكونية نافلة بعد فريضة حصول رضا الرب، جل وعلا، مراد كل العقلاء من أتباع الديانات، بغض النظر عن المحق من المبطل، فالغاية واحدة وإن فسدت وسائل كثير من المريدين الذين ساروا على غير نهج النبوة في:
العلوم الإلهية، فوقعوا في ضروب من البدع العلمية بلغت حد الإشراك والكفران في بعض الأحيان.
أو: الأعمال الشرعية، فوقعوا في ضروب من البدع العملية بلغت حد إبطال العمل، إذ: (من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد).
والله أعلى وأعلم.
ـ[مهاجر]ــــــــ[03 - 10 - 2009, 03:06 م]ـ
ثم تطرق ابن القيم، رحمه الله، إلى حكاية طرف من أدلة القدر، إذ به يحتج من وقع في المعصية، وذلك من الإجمال بمكان، إذ الاحتجاج بالقدر يصح في مواضع ولا يصح في مواضع أخرى، فـ:
إذا احتج به عاص ولما يتب، فذلك من الفساد بمكان، إذ هو من قبيل قول المشركية: (سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آَبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا)، فالقدر لا يحتج به في المعائب، إذ ذلك فتح لباب الإباحية التي وقع فيها غلاة الجبرية ممن سووا بين الإرادة الكونية والإرادة الشرعية فجعلوا كل الكائنات: مرادة للرب، جل وعلا، شرعا، وإن كانت شرا محضا في نفسها، لمجرد أنه أراد وقوعها كونا، فإن الشر ليس إلى الله،
¥