تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

عز وجل، شرعا، وليس إليه وصفا، بل الشر كائن في المقدور الكائن لا القدر المكوِّن، فقدر الله، عز وجل، كله خير، فما كان من شر في خلقه فهو جزئي باعتبار من قام به لا من أراد وقوعه بمقتضى حكمته الباهرة استخراجا لحكم ومصالح أعظم من مفسدة وقوع ذلك الشر الجزئي، وإن بدا عظيما باعتبار الحال، فهو بالنظر إلى مآله، لمن رزق فهما وتدبرا وإحسان ظن بالرب، جل وعلا، بالنظر إلى ذلك المآل: خير، ولكن ليس ذلك بنائل إلا من نظر في مبدأ الأمر: نظر الصابر الراضي لا الجازع الساخط.

وإذا احتج به عاص قد تاب، فذلك من الصحة بمكان، وأسوته في ذلك آدم عليه السلام الذي حج الكليم عليه السلام، فاحتج بالكتاب الأول على المصيبة الكونية التي جرت عليه وعلى ذريته بإخراجه من الجنة، فـ: (كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا)، فاحتجاجه إنما كان على المصيبة لا المعصية فقد تاب منها وأناب، فـ: (فَتَلَقَّى آَدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ)، فزال جرمها وبقي أثرها ابتلاء لآدم عليه السلام وذريته بمعالجة أسباب الابتلاء في دار التكليف بشتى أجناسه: فمنه الابتلاء الكوني بالمصائب التي لا يملك العبد لها دفعا، ومنه الابتلاء الشرعي بالتكليف: تصديقا وحكما، علما وعملا، أمرا ونهيا، فالصبر على المأمور امتثالا، والمحظور اجتنابا من أشد أنواع الصبر على النفوس التي فطرت على الغفلة والنسيان، فهي ضعيفة بحكم الجبلة إلا أن تستمد أسباب القوة من الرب، جل وعلا، الذي يقيم من أقام فضلا ويزيغ من أزاغ عدلا.

وإذا احتج به من نزلت به مصيبة كونية يملك لها ردا بمعالجة الأسباب الرافعة لها بمقتضى ما أودع في الأسباب الكونية من قوى دافعة للمكاره رافعة للنوازل، إذا احتج به من ذلك وصفه فقعد عن مباشرة السبب عجزا وتواكلا متذرعا بالقدر إلى إبطال مباشرة السبب على حد التعبد، فذلك، أيضا، من الفساد بمكان، إذ فيه تعطيل لما سنه الله، عز وجل، في كونه، بمقتضى قدرته النافذة التي خلق بها القوى المؤثرة في الأسباب، وحكمته البالغة التي سير بها تلك القوى لتنتج معلولاتها على حد يظهر به إتقانه، جل وعلا، في إبداع كونه إيجادا وإجرائه وفق ما سبق في الكتاب الأول، فذلك من القضاء المبرم فلا مبدل لكلمات ربك الكونية النافذة الجارية على سنن الحكمة علم ذلك من علم ممن أوتي بصيرة فنظر في المقدورات: نظر التدبر، وجهله من جهل ممن نظر بادي الرأي فلم يدرك من المقدور الكوني إلا الظاهر الحالي.

وإذا احتج به من نزلت به مصيبة كونية لا يملك لها ردا فلا سبب شرعي أو كوني قد وضع لرفعها، فهي مما لا يملك المكلف إلا الصبر عليه احتسابا، أو الرضا به إن بلغ مقام الرضا، فاحتجاجه صحيح، فقدر الله وما شاء فعل كونا، وإن لم يكن على مراد العبد، فجماع الأمر: أن يكون العبد على مراد الرب، جل وعلا، الشرعي حيث يستطيع، وأن يكون على مراده الكوني حيث لا يستطيع، فهو إما قادر على مباشرة السبب على جهة التعبد بما أودع فيه من الاستطاعة الشرعية الموجبة للتكليف التي يناط بها مقام: "إياك نعبد" على حد الابتلاء الشرعي بالتكليف، وما وفق إليه من الاستطاعة الكونية التي بها يكون الفعل في عالم الشهادة فتلك الاستطاعة التي يناط بها مقام: "إياك نستعين".

فبقدرك الكوني النافذ نستعين على امتثال قدرك الشرعي الحاكم.

ومما ذكره ابن القيم، رحمه الله، في هذا الشأن الجليل الذي زلت فيه أفهام كثير من الأذكياء ذوي القوى العلمية وكثير من الأولياء ذوي القوى العملية، مما ذكره في هذا الشأن من السنن والآثار:

قوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: "ما من قلب إِلا وهو بين إِصبعين من أَصابع الرحمن، إِن شاءَ أَن يقيمه أَقامه، وإِن شاءَ أَن يزيغه أَزاغه".

فذلك عموم لا مخصص له جاء التوكيد عليه بدخول: "من" التي تفيد التنصيص على العموم، فضلا عن ورود النكرة: "قلب" في سياق النفي فذلك في حد ذاته: نص في العموم، فجاء التوكيد بـ: "من" إمعانا في تقرير قطعيته وجزمه.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير