عليها من الحقوق، ووازن من شكرها وكفرها، فحينئذ تعلم أنه سبحانه لو عذب أهل سماواته وأرضه، لعذبهم وهو غير ظالم لهم". اهـ
فهذا التقرير البديع من أولئك الأئمة، رحمهم الله، فرقان مبين في باب القدر بين طرائق:
الغلاة في نفي القدر وإثبات الأسباب من المعتزلة ومن تأثر بهم ممن جاء بعدهم من أصحاب المقالات، فهم مثبتون للحكمة على حد الحكمة المدركة في عالم الشهادة، فأثبتوا للخالق، عز وجل، حكمة من جنس الحكمة الثابتة للمخلوق، فشبهوا الرب، جل وعلا، بالعبد في صفاته وأفعاله، على حد قياس التمثيل أو الشمول الباطل.
والغلاة في إثبات القدر ونفي الأسباب من أهل الجبر ومن تأثر بهم ممن جاء بعدهم من المتكلمين، فأثبتوا قدرة بلا حكمة، فهم على نقيض ما عليه أصحاب الطريقة الأولى.
وأهل السنة الذين توسطوا فأثبتوا ما عند الفريقين من الحق، فالله، عز وجل، حكيم، كما أثبت الفريق الأول، قدير كما أثبت الفريق الثاني، فأفعاله في عباده جارية على سنن القدرة النافذة التي بها يخلق الأعيان والأفعال، والحكمة البالغة في ربط المسبَّبات بأسبابها، فهي مؤثرة في إيجادها، بخلاف ما ذهب إليه أهل الجبر الذين عطلوا الأسباب ونفوا العلل، وهي مع ذلك لا تستقل بالتأثير والإيجاد لمسبَّباتها كما قرر أهل النفي من القدرية.
والحق وسط بين طرفي: الغلو والجفاء، وذلك أمر يطرد في طريقة اهل الإسلام بين الملل، وطريقة أهل الستة بين النحل.
وقوله: "حتى تؤمن بالقدر":
فالإيمان بالقدر حتم لازم كما في حديث جبريل عليه السلام، والإيمان به، عند التحقيق، داخل في حد الإيمان بأوصاف وأفعال الرب، جل وعلا، فالقدر: تقدير سابق بمقتضى العلم والحكمة، فهذا من وصف فعله، عز وجل، وقدرة نافذة في إيقاع المقدور على الحد الذي قدره الله، عز وجل، أزلا، فكتبه في اللوح المحفوظ، فذلك من وصف ذاته القدسية تبارك وتعالى، فالتقدير: وصف فعل، و: القدرة: وصف ذات.
وقوله: "وتعلم أَن ما أَصابك لم يكن ليخطئك وما أخطأَك لم يكن ليصيبك": جار على حد المقابلة استيفاء لأحوال المكلف فهو ما بين قدر أصابه فلا راد له، وقدر أخطأه، لا على حد عدم نفاذ قدرة الرب، جل وعلا، بوقوع المقدور الكائن لا محالة، وإنما على حد عدم تقديره أصلا، فلم يشأه الرب، جل وعلا، إذ لو شاءه لوقع حتما. فما شاءه الله كائن وما لم يشأه فلن يكون ولو اجتمع أهل الأرض لإيجاده، إذ لا راد لمشيئته، عز وجل، إيجادا أو إعداما، عطاء أومنعا.
وتلك عقيدة يلزم المكلف الإيمان بها على حد الجزم، فلا يكفي مجرد العلم الذي تقام به الحجة، بل يلزم الجزم القاطع لأي شك، إذ القدر من أوصاف الرب، جل وعلا، الفعلية، وهو عن أوصافه الذاتية من: علم وحكمة وقدرة صادر، فمن كفر به، فقد كفر بجملة من أوصاف كمال الرب، جل وعلا، الثابتة بنصوص قطعية متواترة تفيد العلم الضروري الجازم، وذلك أمر، كما تقدم مرارا، يسهل جريانه على الألسنة في أزمنة السعة، فإذا ابتلي المسلم وزلزل زلزالا شديدا بقدر كوني على غير مراده، أو ربما كان الأمر يسيرا، لكنه في خضم ما يكابده من أعباء الحياة يذهل عن ذلك المعنى كما يقول بعض الفضلاء المعاصرين، إذا ابتلي على هذا الحد: ظهر تأويل معلومه السابق في عالم الشهادة، فصدق العمل العلم أو كذبه، وسؤال الله، عز وجل، السلامة والعافية في الدين والدنيا والثبات إذا ما وقع الابتلاء، سؤاله ذلك في مثل هذه المضائق منطوق كل العقلاء، إذ ليس لنا قدرة على تحمل الابتلاء إلا أن يثبتنا الرب جل وعلا، وإن اغتر من اغتر في أزمنة العافية فظن أن بمقدوره اجتياز أي امتحان رباني بنقص من الأموال والأنفس والثمرات فإذا ولت العافية وأقبل الابتلاء انفسخت همته التي وكل إليها فكان يباهي بها زمن عافيته، فصدرت منه صور من الجزع يعجب الناظر فيها، بل يعجب صاحب المصيبة من نفسه بعد انقضائها كيف لم يصبر، وكيف بدر منه ما بدر من صور التسخط والجزع وهو الذي كان بالأمس يعتقد في نفسه قدرة على تحمل أي بلية، وحقيقة الأمر لو دقق النظر أنه أظهر بلسان حاله: الاستغناء بقدرته عن معونة الرب، جل وعلا، ومدده الكوني بالرسوخ الذي ينزله على أوليائه زمن المحن، فلما أظهر ذلك وكل إلى نفسه، وبئس الوكيل في أزمنة الرخاء أو الشدة، فهي فرحة بطرة في الرخاء جزعة في الشدة.
وإذا نظرت إلى جازع فانظر إليه بعين: الشرع، ففعله معصية قد تخرج صاحبها من الملة، وعين: القدر، فبها ترحمه وتدعو له بالهداية والثبات وزوال الجزع والرجوع إلى جادة الصواب، فهو مبتلى يستحق الشفقة والدعاء، وذلك امتحان عسير لا ينجح فيه إلا آحاد المخلصين، وحسب الكاتب أو القارئ أن يذكر ويتذكر لعل الله، عز وجل، أن يمن عليه بطرف من ذلك المدد الرباني إذا ما وقع الابتلاء بمقتضى السنن الكوني الجاري.
والله أعلى وأعلم.
¥