ـ[مهاجر]ــــــــ[30 - 10 - 2009, 05:30 م]ـ
يقول ابن القيم رحمه الله:
"وفي سنن أبي داود عن أبي حفص الشامي قال: قال عبادة بن الصامت: يا بني، إنك لن تجد طعم الإيمان حتى تعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إنَّ أَوَّلَ مَا خَلَقَ اللهُ الْقَلَمَ فَقَالَ لَهُ: اكتب، قال: يا رَبِّ وَمَا أَكْتُبُ؟ قَالَ: اكْتُبْ مَقَادِيرَ كُل شَيءٍ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ" يا بني، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (مَنْ مَاتَ عَلَى غَيْر هَذَا فَلَيْسَ مِنِّى) ".
ص97، 98.
فلا تطيب حياة بلا إيمان بالقدر، ولن يجد الإنسان طعم الإيمان حتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه، على حد العلم الجازم الذي يولد تصورا صحيحا ينتج عملا قلبيا ولسانيا وبدنيا صحيحا، فذلك خير زاد في سفر الهجرة وأحصن درع يتقى بها من ضربات الوساوس الشيطانية حال نزول الابتلاءات الكونية.
فهذه رواية قيدت فيها الأولية بالظرفية، لا الأولية المطلقة، إذ ليس أول المخلوقات مطلقا: القلم، إلا إن حملت رواية الرفع على أنه أول ما خلق في هذا العالم المشهود، على خلاف بين أهل العلم هل خلق القلم أولا أو العرش.
يقول ابن أبي العز رحمه الله:
"واختلف العلماء: هل القلم أول المخلوقات، أو العرش؟ على قولين، ذكرهما الحافظ أبو العلاء الهمذاني، أصحهما: أن العرش قبل القلم، لما ثبت في الصحيح من حديث عبد الله بن عمرو، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، قال: وعرشه على الماء».
فهذا صريح أن التقدير وقع بعد خلق العرش، والتقدير وقع عند أول خلق القلم، بحديث عبادة هذا. ولا يخلو قوله «أول ما خلق الله القلم»، إلخ - إما أن يكون جملة أو جملتين. فإن كان جملة، وهو الصحيح، كان معناه: أنه عند أول خلقه قال له: " اكتب ". كما في اللفظ: «أول ما خلق الله القلم قال له: اكتب» بنصب "أولَ" و "القلمَ". وإن كان جملتين، وهو مروي برفع "أولُ" و "القلمُ"، فيتعين حمله على أنه أول المخلوقات من هذا العالم، فيتفق الحديثان، إذ حديث عبد الله بن عمرو صريح في أن العرش سابق على التقدير، والتقدير مقارن لخلق القلم. وفي اللفظ الآخر: «لما خلق الله القلم قال له: اكتب» ". اهـ
وقوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: "من مات على غير هذا فليس مني": محمول على تكفير القدرية الأوائل الذين أنكروا علم الرب، جل وعلا، التقديري الأزلي، فهؤلاء كفار بالإجماع، فليسوا من النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم على حد البراءة الكلية للخروج عن دائرة الإيمان إلى دائرة الكفران، بخلاف من أثبت العلم ونفى الكتابة، فهؤلاء ليسوا بكفار، وإن غلظت بدعتهم، ومقالتهم هي الغالبة على سائر القدرية النفاة، فليسوا من النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم على حد البراءة الجزئية للخروج عن دائرة السنة إلى دائرة البدعة.
والإيمان بالقدر عند التحقيق هو آخر حلقات الإيمان كما في حديث جبريل عليه السلام فترتيب الأركان فيه: ترتيب مراد للرب، جل وعلا، كما يقول بعض الفضلاء المعاصرين، فالإيمان أن تؤمن بالله ذاتا وصفات على حد الإثبات بلا تمثيل والتنزيه بلا تعطيل فعن صفاته الفاعلة كان هذا الكون بمقتضى كلماته الكونية النافذة، ومن خلقه الكائن بتلك الكلمات النافذات: رسله الملائكية التي نزلت بكتبه الشرعية على رسله البشرية بالإيمان باليوم الآخر وما فيه من بيان المآلات التي ينفذ فيها قدر الرب، جل وعلا، فهي تأويل المقدور أزلا، فبها تظهر قدرة الرب، جل وعلا، النافذة على إثابة الطائع وعقاب العاصي، وحكمته البالغة إذ لم يسو بينهما في الجزاء، فالتسوية بين مختلفين مما يناقض سنن الحكمة، ولله المثل الأعلى، إذ له منها أجل وصف وأعظم قدر على كيف لا تدركه عقول البشر.
يقول ابن القيم رحمه الله:
¥