تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

النافذة من شر ما ركب في خلقه من الشر، بمقتضى حكمته إظهارا لكمال قدرته بخلق الشيء وضده، فالشر فيها لا في فعله المكوِّن لها، إذ ما وجدت إلا لحكمة تفوق مفسدة ما فيها من شر.

واستمتع الجني بالإنسي بأن أخرجه عن حد الإيمان إلى حد الكفران، فذلك غاية ما يريد ذلك المَرِيد من ابن آدم عدوه اللدود الذي أخرج أباه من رحمة الرب، جل وعلا، فتسلط على آدم، عليه السلام، فأخرجه من الجنة، وتسلط على بنيه إظهارا لحكمة الرب، جل وعلا، بوقوع سنة التدافع بين القبيلين.

فلما ظهر ذلك المعلوم في عالم الشهادة، على وفق ما قدر الرب، جل وعلا، أزلا، صار متعلقا لثوابه وعقابه، فأحصاه بالعلم الثاني: إحاطة، لتظهر حكمته بتخليد تلك الفئام من الإنس والجان في عذاب النار، جزاء وفاقا، فلم يظلمهم، جل وعلا، إذ قد يبدو لبعض الأذهان، بادي الرأي، أن الله، عز وجل، قد أظهر فيهم وصف قدرته وقهره، فعذبهم، بلا حكمة، كما هو لازم كلام منكري الحكمة والتعليل في أفعال الرب العلي الكبير، جل وعلا، والصحيح أن تعذيبهم وتخليدهم في النار هو عين الحكمة التي تقترن بالقدرة، إذ بهما يظهر كمال الرب، جل وعلا، جلالا وجمالا، إذ لو سوى بينهم وبين أهل الإيمان والطاعة لعد ذلك خرقا لسنن القياس الصريح الذي يقضي بالتفريق بين المختلفات في الأحكام، فرعا عن اختلافها في الأوصاف، فلوصف الإيمان حكم الثواب، ولوصف الكفران حكم العقاب، فوضع لكل وصف ما يلائمه من الأحكام، وذلك عين الحكمة، إذ هي وضع الشيء في محله الملائم له.

ومنه أيضا:

قوله تعالى: (وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ)

فشرعوا من الدين ما لم يأذن به الله، عز وجل، ففرقوا بين المتماثلات في تحكم عجيب بأن أحلوا لبعض وحرموا على بعض، وسووا بينهما في حال ثالثة، فنازعوا الله، عز وجل، تشريع الأحكام، وهو من أخص أوصاف إلهيته، فحكمه أعدل الأحكام إذ قد صدر من كمال علمه وحكمته، فلما طعنوا في ألوهيته بذلك، أحصاه عليهم بعلمه المحيط لما بدر منهم في عالم الشهادة على وفق ما قدر في عالم الغيب، فجزاهم بعدله، ولم يظلمهم إذ لم يجبرهم على مخالفة أمره، فحسن التذييل أيضا بوصف الحكمة مقترنا بالعلم، فالحكمة تقتضي عقابهم، على حد ما تقرر من إعطاء كل وصف حكمه، وإنما قدر عليهم ذلك أزلا، إظهارا لآثار حكمته في خلقه، بتنوع الأحكام فرعا عن تنوع الأوصاف.

وقوله تعالى: (قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ):

فسبحوه، عز وجل، في معرض الابتلاء بـ: (وَعَلَّمَ آَدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ)، فالأمر فيه جار مجرى التحدي المذيل بشرط يفيد الإلهاب والتهييج، فذلك آكد في التحدي المعجز، فلما فظهر به عجزهم، سبحوه على حد البراعة في الاستهلال بين يدي الاعتذار، كما يقول صاحب "التحرير والتنوير" رحمه الله، إذ: (لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا)، ثم جاء التذييل بوصفي العلم والحكمة، فالعلم هنا قد اقترن بالحكمة، لظهور أثر حكمته، عز وجل، بهذا الابتلاء، فعلمت الملائكة حكمة اصطفاء آدم عليه السلام لمنصب الخلافة تكليفا وتشريفا، فأنت العليم بكل المعلومات على حد الإحاطة العام فعلمك قد عم ما دق وجل، ومن معلومك الرباني: ما خص به آدم من علم الأسماء، فاستحق التفضيل الموجب لوقوع التكليف بالسجود له إظهارا للطائع من العاصي، فلما عصى إبليس استحق الطرد، ولما أطاعت الملائكة استحقت التشريف بأن وكلت بأمور الكون، على حد: (لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ)، لا على حد الاستقلال بالتأثير فهم: (عِبَادٌ مُكْرَمُونَ)، فلا خروج لهم عن وصف العبودية، وإنما خصوا بالعبودية الخاصة: عبودية العُبَّاد لا العبيد، فهم العابدون اختيارا العبيد انقيادا.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير