تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

يقول ابن تيمية، رحمه الله، في معرض بيان حال المحجوبين في باب الإلهيات من أصحاب الذكاء الفطري: بقطع مادة الزكاء الشرعي عنهم، فهم، على ما تقدم بيانه، أذكياء فضلا من الرب جل وعلا، لا أزكياء عدلا منه، تبارك وتعالى، فنالوا عطاءه الكوني الأدنى، وحجبوا عن عطائه الشرعي الأعلى، يقول رحمه الله:

"ويعلم العليم البصير بهم أنهم من وجه مستحقون ما قاله الشافعي ـ رضي اللّه عنه ـ حيث قال: حكمي في أهل الكلام أن يضربوا بالجريد والنعال، ويطاف بهم في القبائل والعشائر، ويقال: هذا جزاء من أعرض عن الكتاب والسنة وأقبل على الكلام.

ومن وجه آخر، إذا نظرت إليهم بعين القدر ـ والحيرة مستولية عليهم، والشيطان مستحوذ عليهم ـ رحمتهم وترفقت بهم، أوتوا ذكاء وما أوتوا زكاءً وأعطوا فهومًا وما أعطوا علومًا، وأعطوا سمعًا وأبصارًا وأفئدة: {فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُم مِّن شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُون} [الأحقاف: 26].

ومن كان عليما بهذه الأمور، تبين له بذلك حذق السلف وعلمهم وخبرتهم، حيث حذروا عن الكلام ونهوا عنه، وذموا أهله وعابوهم، وعلم أن من ابتغى الهدى في غير الكتاب والسنة لم يزدد من اللّه إلا بعدًا". اهـ

"الرسالة الحموية"، ص93، 94.

وذلك أمر مطرد في كل أبواب الديانة، فليس مقصورا على أبواب العلوم الخبرية من إلهيات وسمعيات ونبوات، بل يتعداه إلى الحكميات، فكم من فقيه بالقول قد استظهر الفروع بأدلتها، وفقه الأصول فسهل عليه إدراك مراد الرب، جل وعلا، ومراد رسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ولكنه خلو من الفضائل العملية، بل ربما كان مفرطا في الواجبات، وهو مع ذلك متزي بزي العلماء والفقهاء!، وكم من مدع لنفسه الحنكة السياسية، وهو عادل عن سياسات أئمة العدل من الأنبياء عليهم السلام وخلفائهم على رسم النبوة إلى سياسات أئمة الجور من المتملكة والمتأمرة بحد سيف الظلم والقهر، وكم من مدع لنفسه طرائق زهدية قد أحدثها أو نقلها عن متزهدة الأمم من الخارجين عن سنن الأنبياء بل عن سنن الفطرة في أحيان كثيرة!، فيعرض عن أخلاق الأنبياء إلى أخلاق الرهبان. فكل يعارض النبوة بما يرد عليه من العلوم أو الأعمال أو الأحكام أو السياسات أو الأخلاق فيحقر من شأن النبوة تعظيما لهواه، فهو منتصر لعقله أو ذوقه من الوحي المنزل!. وذلك محل النزاع بين إبليس ورب العالمين، جل وعلا، فقد أوحى الرب إلى الملائكة بالسجود فعارض إبليس بهواه إذ ظن لنفسه فضيلة وقياسه إذ ظن نفسه خيرا من آدم فرعا عن كون مادته النارية خيرا من مادة آدم الطينية، والأصل فاسد والعلة التي علق عليها الحكم غير مؤثرة فالفرع باطل هو الآخر بداهة. وهو محل النزاع بين الرسل وأممهم، فالرسل قد جاءوا بالوحي، فعارضته أممهم بالعقل والذوق، وهو محل النزاع بين أهل الديانة والفساق في هذا العصر، والعلماء الربانيين وأبناء المدارس العلمانية والعقلية، وإن كان حال كثير من العقلانيين، مع فحش معارضتهم للوحي بمعقولهم، مع كون حالهم خيرا من العلمانيين، فالأولون أرادوا نصرة الملة بمعقولهم فالتزموا بالإفراط في جانب المعقول تفريطا في جانب المنقول، وغالبا ما تكون معارضاتهم في العلميات فهم في العمليات على سنن الشريعة، والآخرون راموا هدم الديانة بمعارضة أصولها وفروعها، فخاضوا في العلميات الخبرية وعطلوا الشرائع العملية، وصيروا الدين رسما ظاهرا بلا حقيقة باطنة تولد في نفس صاحبها أحوالا قلبية كاملة، فهي على رسم الشريعة، وإرادات عملية صالحة تظهر آثارها على الظاهر قولا وعملا، فهو، أيضا، على رسم الشريعة، فلا يكون دين إلا بالتزام أحكام الرسالة علوما باطنة وأعمالا ظاهرة، وذلك ما يجعل الدين على حد المشاقة للعلمانية، فهو في شق وهي في آخر لا يجتمعان ولا يرتفعان، وإن رام أحد المزج بينهما خرج المزيج غير متجانس فهو مسخ فكري غير متناسق، سرعان ما يموت، إذ لا يجتمع في عين واحدة متناقضان، فالواجب كما يقول ابن أبي العز رحمه الله:

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير