تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

وبعد العالم العامل يأتي العالم الذي لديه قوة الحفظ العلمية، دون قوة الفعل العملية، فهو ممدوح من وجه، إذ حفظ الله، عز وجل، في وعاء فؤاده جملة من علوم الشريعة فهو يبلغها لمن هو أفقه منه، على المعنى العام للفقه الذي يعم العلم والعمل، أصولا وفروعا، فتلك أعلى مرتبة، والعالم الذي يبلغ، مع قصوره في جانب العمل، خير من العالم الذي يكتم علمه، فلا ينتفع به أحد، مع كونه معدودا من أهل العلم، كسائر علماء السوء في كل عصر ومصر، لا سيما في عصرنا ومصرنا الذي ابتلينا فيه بثلة ممن يتبجحون بعلوم الآلات من أصول ونحو وبلاغة ومنطق، ففلان صاحب المنصب والوجاهة: أعلم أهل مصر بكذا وكذا من العلوم وله حلقات درس يظهر فيها تمكنه منها، ثم هو في أمر العامة الذين لا يهتمون كثيرا بما عنده من دقائق العلم إذ لا تدركها فهومهم ابتداء، فهمتهم قد تعلقت بمعرفة الأحكام الشرعية برسم المستفتي المقلد لمن يظن فيه أهلية الإفتاء: عدالة وضبطا،

ثم هو في هذا الشأن عديم النفع بل عظيم الضر بمداهنته للسلطان، فأين العلم إن لم يبذله لطالبه برسم النصح لله ورسوله وخاصة المؤمنين وعامتهم؟، وذلك من الفصام النكد الذي لم يسلم منه أحد في زماننا، فالأقوال في واد، والأفعال في واد آخر، وكثير قد حصل جملة نافعة من مسائل العلم دينا أو دنيا، ولكنه يبخل بها على طالبها، لما أصاب النفوس من الشح في الأعصار المتأخرة فهو شح عام قد حملنا على الظلم والحسد والبغي ومنع الحقوق أصحابَها، وذلك تأويل قوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: "إِيَّاكُمْ وَالشُّحَّ فَإِنَّهُ أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ أَمَرَهُمْ بِالظُّلْمِ فَظَلَمُوا وَأَمَرَهُمْ بِالْقَطِيعَةِ فَقَطَعُوا وَأَمَرَهُمْ بِالْفُجُورِ فَفَجَرُوا".

وأما أسوأ الأصناف فهو الأرض القيعان:

يقول ابن القيم رحمه الله:

"ومن الأرض أرض قيعان- وهى المستوية التى لا تنبت إما لكونها سبخة أو رمالاً، ولا يستقر فيها الماء - فإذا وقع عليها الماءُ ذهب ضائعاً لم تمسكه لشرب الناس ولم تنبت به كلأَ لأنها غير قابلة لحفظ الماءِ ولا لنبات الكلإِ والعشب وهذا حال أَكثر الخلق وهم الأَشقياءُ الذين لم يقبلوا هدى الله ولم يرفعوا به رأْساً، ومن كان بهذه المثابة فليس من المسلمين، بل لا بد لكل مسلم أن يزكو الوحي فى قلبه فينبت من العمل الصالح والكلم الطيب ونفع نفسه وغيره بحسب قدرته، فمن لم ينبت قلبه شيئاً من الخير ألبتة فهذا من أشقى الأشقياءِ. فصلوات الله وسلامه على من الهدى والبيان والشفاءُ والعصمة فى كلامه وفى أمثاله". اهـ

ص122.

فلا خير فيه لا لنفسه ولا لغيره، فاستوفت القسمة العقلية الأقسام الواقعة، وإن لم يذكر فيها قسم رابع: من ينفع نفسه ولا ينفع غيره، وذلك غير متصور في هذا الباب، إذ كيف يسلك مسلك الديانة وطلب العلم ولا تجود نفسه به لإخوانه، فلم تعلمه إذن؟!، وما ثمرة نصبه في طلبه إن كان سرا في صدره يموت بموته، فلم يكره على ترك البلاغ، ولم يضيق عليه، ليصح قبول عذره في ترك البلاغ فإن كثيرا من أهل العلم المعاصرين، من علماء طعنوا في السن، ورسخت أقدامهم في الديانة، وعندهم من العلم ما تسمو إلى تحصيله الهمم لدقة مسالكه ولطف مآخذه، ولكنهم قد حجبوا وضيق عليهم من أهل الجور فلا يقدرون على البلاغ وإن كانوا يتحرقون شوقا لذلك، فيبلغون مع أول بارقة سعة، فمتى وجدوا سبيلا للبلاغ سلكوه، مع أنهم قد يتعللون، لو كانوا أصحاب حظوظ نفسانية، بأنهم لم يعطوا أقدارهم من الوجاهة، ولم ينزلوا منازل التصدر والرياسة، فليس الناس أهلا لحمل علومهم!، فتراهم ينتهزون الفرص للبلاغ، في الفضائيات أو شبكة المعلومات أو حتى تسجيل المجالس العلمية وبثها في المنتديات أو على أقراص ليزرية ......... إلخ، بل بعض الفضلاء المعاصرين يدفع الأموال لإحدى الفضائيات ليقدم سلسلة علمية أعدها بنفسه، مع أن البدهي ألا يدفع شيئا بل لو دفعوا له ما كان في ذلك حرج فأخذ الأجر على تعليم العلم جائز على خلاف بين أهل العلم ليس هذا موضع بسطه، فلن يعدم المرء حيلة ليوصل النفع إلى إخوانه ما استطاع إلى ذلك سبيلا، والرب، جل وعلا، رحيم فلم يكلفنا فوق طاقتنا بإيذاء أنفسنا أو أصحاب الحقوق علينا من الأهل والذرية، وإنما أمرنا ببذل الأسباب المشروعة ما استطعنا إلى ذلك سبيلا، وهو شكور يقبل القليل فيثمره، وهو عزيز فأمره غالب ودينه ظاهر، فلا يحمل العبد هم ذلك، وإنما يحمل هم البلاغ ليكون ممن استعمل في نصرة هذا الدين فلا تجري عليه سنة الاستبدال إن بخل بنفسه أو ماله، فلا قيام لهذا الدين إلا بـ: الشجاعة والكرم، والشجاعة وسط بين التفريط على رسم الجبن، والإفراط على رسم التهور، والكرم وسط بين التفريط على رسم البخل، والإفراط على رسم التبذير.

يقول ابن تيمية رحمه الله:

"فلهذا تجدهم يمدحون جنس الشجاعة وجنس السماحة إذ كان عدم هذين مذموما على الإطلاق وأما وجودهما ففيه تحصيل مقاصد النفوس على الإطلاق لكن العاقبة في ذلك للمتقين وأما غير المتقين فلهم عاجلة لا عاقبة والعاقبة وإن كانت في الآخرة فتكون في الدنيا أيضا .................... والله سبحانه حمد الشجاعة السماحة في سبيله كما في الصحيح عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قيل يا رسول الله: الرجل يقاتل شجاعة ويقاتل حمية ويقاتل رياء فأي ذلك في سبيل الله فقال من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله.

وقال سبحانه: (وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله)، وذلك أن هذا هو المقصود الذي خلق الله الخلق له كما قال تعالى: (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) فكل ما كان لأجل الغاية التي خلق لها الخلق كان محمودا عند الله وهو الذي يبقى لصاحبه وينفعه الله به وهذه الأعمال هي الباقيات الصالحات". اهـ

"الاستقامة"، ص496_498.

والله أعلى وأعلم.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير