تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

ـ[مهاجر]ــــــــ[31 - 01 - 2010, 08:20 ص]ـ

يقول ابن القيم رحمه الله:

"والمقصود أن الله سبحانه أَعلم بمواقع فضله ورحمته وتوفيقه، ومن يصلح لها ومن لا يصلح، وأَن حكمته تأْبى أَن يضع ذلك عند غير أَهله، كما تأْبى أن يمنعه من يصلح له. وهو سبحانه الذى جعل المحل صالحاً وجعله أَهلاً وقابلاً، فمنه الإعداد والإمداد، ومنه السبب والمسبب". اهـ

ص122.

فذلك جار على حد ما تقدم، مرارا، من معنى الحكمة التي يضع صاحبها الشيء في موضعه، فقد أعد المحل وأمد بالسبب وخلق المسبَّب بالقوى الفعالة في السبب الذي يجري وفق ما قدر بعلمه وحكمته من السنن الكونية التي ينتظم بجريانها أمر هذا الكون على هذا الحد الذي نراه من الإتقان والإبداع.

يقول ابن القيم رحمه الله:

"ومن اعترض بقوله: فهلا جعل المحالّ كلها كذلك، وجعل القلوب على قلب واحد، فهو من أَجهل الناس وأضَلهم وأسفههم، وهو بمنزلة من يقول: لم خلق الأَضداد، وهلا جعلها كلها شيئاً واحداً، فلم خلق الليل والنهار والفوق والتحت والحر والبرد والدواءَ والداءَ والشياطين والملائكة والروائح الطيبة والكريهة والحلو والمر والحسن والقبيح؟ وهل يسمح خاطر من له أَدنى مسكة من عقل بمثل هذا السؤال الدَّالَّ على حمق سائله وفساد عقله؟ وهل ذلك إلا موجب ربوبيته وإلاهيته وملكه وقدرته ومشيئته وحكمته، ويستحيل أن يتخلف موجب صفات كماله عنها؟ ". اهـ

ص122.

فلو كان الأمر كذلك لتعطلت سنن كونية كثيرة، لا سيما سنة التدافع بين الأضداد، فحر يستدفع بالإبراد، وبرد يستدفع بالاستدفاء .......... إلخ، فيظهر أثر حكمة الرب، جل وعلا، في مباشرة السبب توسلا بقواه المؤثرة إلى تولد المسبَّب الذي ينتفع به باذل السبب، فهذا حد الشريعة التي اعتبرت الأسباب فلم تهملها، فذلك مما يقدح في العقول، ولم تجعلها مناط التأثير الأول فذلك مما يقدح في التوحيد بغض الطرف عن قدرة الرب، جل وعلا، الذي يجري ما شاء من الأسباب ويمنع ما شاء، وذلك أمر، كما تقدم في أكثر من موضع، يظهر جليا في الاستشفاء بتعاطي الدواء، فالسبب واحد والقوة المؤثرة فيه واحدة ومع ذلك يشفى به مريض دون آخر، لاستيفاء الشروط وانتفاء الموانع في حق الأول، وقيامها في حق الثاني، وذلك لا يكون إلا بمشيئة الرب، جل وعلا، فقدرته مؤثرة في كل أحداث الكون إيجادا وإعداما، فكل سبب لها خاضع ولا تخضع هي لأي سبب مشهودا كان أو مغيبا.

ولو كان الأمر على حد سواء، فلم يطرأ التغير بتوالي الأضداد، لاحتج بذلك الملحدون على صحة مقالتهم الردية في تأليه الطبيعة، فلا رب يعالج كونه بأنواع المقادير الكونية، فكان ذلك التباين في الأحوال، بل التضاد بين كثير منها مع انتظام أمر العالم بذلك مئنة من وجود الرب، جل وعلا، بل وعنايته بكونه، فهو الموجد له من العدم، المسير له بأقضيته الكونية على نحو تصلح به أمور البرية، فذلك من أعظم صور عنايته بخلقه.

والأشياء قد علق وقوعها على أسباب، وهي متباينة فلزم تباين الوسائل إليها، وذلك مؤد لا محالة إلى التصادم بين الإرادات، فتلك طبيعة الكائنات، ففريق يغلب عليه الجور فيتعدى، وفريق آخر يدفع عدوانه، فيقع التصادم لا محالة، فيظهر من ذلك من طبائع الأشياء الذاتية ما يدل على إتقان الصنعة الربانية، فالطبائع أمر ذاتي لازم للأشياء فالقول بنزعها منها مكابرة ينكرها العقل والحس، لخروجها عن مقتضى السنن الكوني المطرد، نعم قد تنزع من الأشياء أوصافها الذاتية كما نزع حر النار التي ألقي فيها الخليل عليه السلام، وكما برد لهيبها فمشى عليه أبو مسلم الخولاني، رحمه الله، لما ألقاه الأسود العنسي فيها، ولكن ذلك لا يكون إلا آية على حد الإعجاز للنبي أو الكرامة للولي، فهو خارج عن القياس وما خرج عن القياس عليه لا يقاس، فالبحث الآن في الطبائع الذاتية للأشياء فلا دواء إلا مر، ولا نار إلا حارة .... إلخ، فلو صح خروجها عن وصفها المعتاد خروجا مطردا يصح القياس عليه لا استثناء منقطعا لا اتصال له فلا يقاس عليه، لو صح ذلك لجاز للمخلوق الفقير أن يدعي الغنى المطلق دون أن ينكر عليه، لجواز اتفكاك وصف الفقر عنه مع أنه وصف ذاتي لازم له أبدا، ولجاز طروء عارض الفقر على الرب، جل وعلا، مع أن ذلك في حقه

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير