تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

فخلق المتضادات، كما تقرر مرارا، مئنة من كمال ربوبيته، عز وجل، فلن تظهر حكمته، جل وعلا، إلا بذلك، لما تقدم من تدافع الطبائع الذاتية للمتباينات بمقتضى ما جبلت عليه من القوى، فقوى البرودة في الماء تدافع قوى الحرارة في النار، فلا تتصور نار بلا حرارة إلا على حد الخارقة، كما تقدم، والبحث الآن في السنن المطردة التي أقام الله، عز وجل، عليها كونه، ولو احتوى السبب شرا جزئيا فهو ذريعة إلى تحصيل خير كلي فضلا عن كون الشر ذاتيا فيه فلا ينسب إلى الرب، جل وعلا، إلا على حد الخلق الذي يكون بالمشيئة فلا تستلزم محبته لذاته، وإنما تتعلق الحكمة بما يتولد عنه من المنافع الشرعية المرادة لذاتها فهي متعلق محبته، عز وجل، فلا تكون إلا شرعية، كما أن المشيئة لا تكون إلا كونية، فالتسوية بينهما: مظنة الخطأ في هذا الباب، فإما أن ينفي الناظر خلق الله، عز وجل، الشر فيقع في القدر، وإما أن يثبته للرب، جل وعلا، على حد المحبة، فيقع في الجبر، والتوسط في ذلك: إثبات الخلق متعلقا بالمشيئة لا المحبة، فالرب، جل وعلا، لا يحب الشر وإنما يوجده لحكمة تفوق مفسدة وقوعه فذلك معدن الحكمة التي يتصف بها الرب، جل وعلا، على حد الكمال المطلق.

فهل تظهر آثار صفات الجمال إلا بوجود من تتعلق بهم من أهل الطاعة، وهل تظهر آثار صفات الجلال إلا بوجود من تتعلق بهم من أهل المعصية، وهل يظهر كل منهما إلا بملاحظة الآخر؟!، فبضدها تتمايز الأشياء، فالمراد لغيره يتوصل به إلى المراد لذاته، ومناط الأمر: معرفة نوع الشيء: هل هو مراد لذاته فلا يكون إلا محبوبا، أو هو مراد لغيره فلا يمتنع أن يكون مكروها لشر ذاتي فيه، مع تنزه إضافته إلى الرب، جل وعلا، على حد الرضا، وإنما يضاف إليه على حد الخلق مع كونه وسيلة إلى مراد أسمى، فانفكاك الجهة فيه كائن: جهة الخلق وجهة المحبة، جهة الشر الذاتي فيه والخير الذي يتذرع به إليه، وفي علم الأصول: يجوز أن تكون الوسيلة إلى تحصيل المصلحة الأعلى متضمنة لمفسدة أدنى، فيكون الفعل محرما، ومع ذلك يرتكبه الفاعل، بل ويثاب عليه، لتوصله به إلى درء مفسدة أعظم، وذلك، كما تقدم مرارا، من الدقة بمكان فلا يجيد استعمال موازينه الشرعية إلا من تضلع من العلوم الرسالية.

يقول ابن ابي العز، رحمه الله، في معرض التفريق بين المراد لذاته من الخير الكلي، والمراد لغيره من الشر الجزئي:

"فإن قيل: كيف يريد الله أمرا ولا يرضاه ولا يحبه؟ وكيف يشاؤه ويكونه؟ وكيف تجتمع إرادته له وبغضه وكراهته؟ قيل: هذا السؤال هو الذي افترق الناس لأجله فرقا، وتباينت طرقهم وأقوالهم.

فاعلم أن المراد نوعان: مراد لنفسه، ومراد لغيره. فالمراد لنفسه، مطلوب محبوب لذاته وما فيه من الخير، فهو مراد إرادة الغايات والمقاصد. والمراد لغيره، قد لا يكون مقصودا لما يريد، ولا فيه مصلحة له بالنظر إلى ذاته، وإن كان وسيلة إلى مقصوده ومراده، فهو مكروه له من حيث نفسه وذاته، مراد له من حيث قضاؤه وإيصاله إلى مراده، فيجتمع فيه الأمران: بغضه وإرادته، ولا يتنافيان، لاختلاف متعلقهما. وهذا كالدواء الكريه، إذا علم المتناول له أن فيه شفاءه، وقطع العضو المتآكل، إذا علم أن في قطعه بقاء جسده، وكقطع المسافة الشاقة، إذا علم أنها توصل إلى مراده ومحبوبه. بل العاقل يكتفي في إيثار هذا المكروه وإرادته بالظن الغالب، وإن خفيت عنه عاقبته، فكيف بمن لا يخفى عليه خافية، فهو سبحانه يكره الشيء، ولا ينافي ذلك إرادته لأجل غيره، وكونه سببا إلى أمر هو أحب إليه من فوته.

من ذلك: أنه خلق إبليس، الذي هو مادة لفساد الأديان والأعمال والاعتقادات والإرادات، وهو سبب لشقاوة كثير من العباد، وعملهم بما يغضب الرب سبحانه، تبارك وتعالى، وهو الساعي في وقوع خلاف ما يحبه الله ويرضاه. ومع هذا فهو وسيلة إلى محاب كثيرة للرب تعالى ترتبت على خلقه، ووجودها أحب إليه من عدمها.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير