تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

، تبارك وتعالى، محال ذاتي، بل ضده من الغنى هو الوصف الذاتي اللازم له أبدا، فأوصاف الذوات لا تنفك عنها، وهي متباينة بل متضادة، فيستحيل شرعا وعقلا وجود الذات دون وجود الأوصاف الذاتية القائمة بها فهي التي تميزها عن غيرها من الذوات، فلو نزعت منها لنزع منها المعنى والاسم الدال عليها، فصارت ذاتا أخرى، فلو نزعت الحرارة من النار ما صارت نارا، ولذلك كانت بعد نزع قوة الإحراق منها لما ألقي الخليل عليه السلام فيها: بردا وسلاما، وذلك ليس وصف النار الذاتي الذي ميزها عن بقية الذوات. فاتصاف الذوات بصفاتها على هذا الحد من الإتقان فلا تتداخل صفات ذاتين في الخارج، وإن صح وقوع الشركة بينهما في المعاني الكلية المطلقة في الذهن فذلك من قبيل الاشتراك المعنوي الجائز بل الواجب عقلا لإدراك حقائق الأشياء بردها إلى أصول كلية يحصل بها الإفهام لحقيقة الشيء، فمهما وقع من التشابه خارج الذهن بين ذاتين أو أكثر، فلا بد من قدر فارق بينهما تختص به كل ذات عن الأخرى، فلو نزعت الطبائع الذاتية منها لانتفى القدر الفارق بينها فصارت كلها على وصف واحد، فتعطلت بذلك سنة التدافع التي تنشأ من هذا القدر الفارق، فضلا عن إفضاء ذلك إلى القول بوحدة مادة العالم فلا امتياز لمادة عن غيرها، ولو كانت شريفة القدر، وذلك ذريعة إلى القوب بوحدة الوجود التي انتحلها غلاة الاتحادية.

يقول ابن القيم رحمه الله:

"قلت لشيخ الإسلام: فقد كان من الممكن خلق هذه الأمور مجردة عن المفاسد مشتملة على المصلحة الخالصة فقال: خلق هذه الطبيعة بدون لوازمها ممتنع، فإن وجود الملزوم بدون لازمه محال، ولو خلقت على غير هذا الوجه لكانت غير هذه، ولكان عالماً آخر غير هذا. قال: ومن الأشياء ما تكون ذاته مستلزمة لنوع من الأمور لا ينفك عنه - كالحركة مثلاً المستلزمة لكونها لا تبقى - فإذا قيل: لما لم تخلق الحركة المعينة باقية؟ قيل: لأن ذات الحركة تتضمن النقلة من مكان إلى مكان والتحول من حال إلى حال، فإذا قدر ما ليس كذلك لم يكن حركة". اهـ

ص123، 124.

ويقول في موضع تال:

"وهل حقيقة الملك إلا بإكرام الأولياءِ وإهانة الأَعداءِ؟ وهل تمام الحكمة وكمال القدرة إِلا بخلق المتضادات والمختلفات وترتيب آثارها عليها وإِيصال ما يليق بكل منها إِليه؟ وهل ظهور آثار أَسمائه وصفاته فى العالم إلا من لوازم ربوبيته وملكه؟ فهل يكون رزّاقاً وغفاراً وعفوّاً ورحيماً وحليماً ولم يوجد من يرزقه، ولا من يغفر له ويعفو عنه ويحلم عنه ويرحمه؟ وهل انتقامه إلا من لوازم ربوبيته وملكه؟ فممن ينتقم إن لم يكن له أعداء ينتقم منهم، ويرى أولياءه كمال نعمته عليهم واختصاصه إياهم دون غيرهم بكرامته وثوابه؟ وهل فى الحكمة الإلهية تعطيل الخير الكثير لأجل شر جزئى يكون من لوازمه؟ فهذا الغيث الذى يحيى به الله البلاد والعباد والشجر والدواب. كم يحبس من مسافر، ويمنع من قصاد، ويهدم من بناءٍ، ويعوق من مصلحة؟ ولكن أين هذا مما يحصل به من المصالح؟ وهل هذه المفاسد فى جنب مصالحه إلا كتفلة فى بحر؟ وهل تعطيله لئلا تحصل به هذه المفاسد إلا موجباً لأعظم المفاسد والهلاك؟ وهذه الشمس التى سخرها الله لمنافع عباده وإنضاج ثمارهم وأقواتهم وتربية أبدانهم وأبدان الحيوانات والطير، وفيها من المنافع والمصالح ما فيها كم تؤذى مسافراً وغيره بحرّها، وكم تجفف رطوبة وكم تعطش حيواناً، وكم تحبس عن مصلحة، وكم تنشف من مورد وتحرق من زرع؟ ولكن أين يقع هذا فى جنب ما فيها من المنافع والمصالح الضرورية المكملة؟ فتعطيل الخير الكثير لأجل الشر اليسير شر كثير، وهو خلاف موجب الحكمة الذى تنزه الله سبحانه عنه". اهـ

ص123.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير