تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

هذا الكون، فالعقل الصريح يحيل ذلك إلا على رسم الآية أو الكرامة، ومحل البحث الآن: ما اطرد من أمر الخلائق لا ما استثني، فهو خارج عن القياس فغيره عليه لا يقاس.

فالشر بنوعيه: العدمي والذاتي من خلق الله، عز وجل، وهو غير مراد لذاته، وإنما يتوصل به إلى مراد أسمى ومطلوب أعظم.

يقول ابن القيم رحمه الله:

"فإن قيل: فهلا حصلت تلك اللوازم وانتفت تلك الأضداد، فهذا هو السؤال الأول، وقد بينا أن لوازم هذا الخلق وهذه النشأة وهذا العالم لا بد منها، فلو قدر عدمها لم يكن هذا العالم بل عالماً آخر ونشأة أخرى وخلقاً آخر، وبينا أن هذا السؤال بمنزلة أن يقال: هلا تجرد الغيث والأنهار عما يحصل به من تغريق وتعويق وتخريب وأذى؟ وهلا تجردت الشمس عما يحصل منها من حر وسموم وأذى؟ وهلا تجردت طبيعة الحيوان عما يحصل له من ألم وموت وغير ذلك؟ وهلا تجردت الولادة عن مشقة الحمل والطلق وألم الوضع، وهلا تجرد بدن الإنسان عن قبوله للآلام والأوجاع واختلاف الطبائع الموجبة لتغير أحواله؟ وهلا تجردت فصول العام عما يحدث فيها من البرد الشديد القاتل والحر الشديد المؤذى؟ فهل يقبل عاقل هذا السؤال أو يورده؟ وهل هذا إلا بمنزلة أن يقال: لم كان المخلوق فقيراً محتاجاً والفقر والحاجة صفة نقص، فهلا تجرد منها وخلعت عليه خلعة الغنى المطلق والكمال المطلق؟ فهل يكون مخلوقاً إذا كان غنياً غنى مطلقاً؟ ". اهـ

ص126.

فانفكاك تلك الأشياء عن العوارض الذاتية الملازمة لها بمنزلة تجريد الموصوف من صفاته، فيعدم خارج الذهن، فكيف يكون مرض بلا آلام وأوجاع يقتضيها خروج البدن عن حالة الاعتدال إلى حالة الاختلال، فالوجع والألم من الصفات الذاتية التي لا تنفك عن المرض، فهي كالصفات الذاتية الملازمة للبدن من يد وعين وقدم ..... إلخ، فإذا جرد البدن من تلك الصفات بتلف أو بتر انتفى عنه اسم البدن، إذ هو اسم دال على مسمى هو مجموع الأوصاف الذاتية القائمة بالذات فيطلق على مجموعهما: بدن أو جسد أو إنسان، فإذا جرد البدن من تلك الأوصاف انتفى عنه الاسم بقدر انتفاء تلك الأوصاف عنه، فبدن ناقص بفقد وصف اليد أو القدم، وبدن أنقص بفقد أوصاف أكثر حتى يصل الأمر إلى انتفاء اسم البدن لتلف كل أوصافه التي تعلق بها الاسم، فمن رام انفكاك الملزوم عن لازمه فقد رام المحال بتبديل خصائص الأشياء الذاتية التي ركبها الله، عز وجل، فيها، إظهارا لحكمته في تعلق الأحكام بتلك الأوصاف، فيتعلق بوصف المرض وهو حكم كوني، أحكام شرعية، ويتعلق بضده من وصف الصحة وهو أيضا: حكم كوني، أحكام شرعية، فلكل حكم كوني بنعمة أو نقمة، بعافية أو ابتلاء: ما يتعلق به من الأحكام الشرعية، فلو نزعت من الأشياء خصائصها الذاتية كمالا أو نقصانا، لتعطلت الأحكام بانتفاء العلل التي هي الأوصاف التي علقت عليها، فأنى لحكمة أن تظهر، ولا أمارات تدل على تعلق الأحكام بالذوات، وإظهارا لقدرته إذ قهر الأشياء بما ركب فيها من أوصاف النقص إظهار لكماله، فبضدها تتميز الأشياء، فالفقر من الأوصاف الذاتية الملازمة لكل مخلوق مهما بلغ كمال ذاته وصفاته، بل أهل الجنة مع كمال ذواتهم وصفاتهم لا ينفكون عن افتقار إلى الله، عز وجل، في أحكامهم الشرعية فيلهمون التسبيح كما يلهم أهل الدنيا النفس، وفي أحكامهم الكونية فبقاؤهم، كما تقدم مرارا، إنما يكون بإبقاء الله، عز وجل، لهم، وجبريل، عليه السلام، مقدم الملائكة وأعظمهم ذاتا ووصفا، لا ينفك عن فقر ذاتي ملازم له، فالله، عز وجل، خالقه، فافتقر إليه في الإيجاد، ثم هو مميته إظهارا لتفرده، عز وجل، بوصف الحياة الكاملة أزلا وأبدا، فمن رام الخروج عن هذا الوصف الذاتي الذي لا ينفك عنه مخلوق فهو على رسم الطغيان في قوله تعالى: (كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآَهُ اسْتَغْنَى)، فذيل بالعلة عقيب المعلول على حد الفصل لشبه كمال الاتصال، فعلة حكم الطغيان، ظنه على حد الرؤية العلمية فذلك آبلغ في بيان فساد تصوره إذ جزم لدلالة مادة الرؤية القلبية على العلم الجازم، جزم بأنه غني، وهو على الضد من ذلك، فوصف الغنى الذي ادعاه منتف عنه، بل هو بنقيضه متصف، فلا ينفك عن وصف نقص ذاتي ملازم لذاته أبدا، فذلك مما جبل

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير