تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

عليه، وجرت أحكام الكون والشرع على وفاقه، إظهارا للقدرة النافذة والحكمة البالغة كما سبقت الإشارة إلى ذلك.

يقول ابن القيم رحمه الله:

"ومعلوم أن لوازم الخلق لا بد منها فيها، ولا بد للعلو من سفل، والسفل من مركز ولوازم العلو من السعة والإضاءة والبهجة والخيرات وما هناك من الأرواح العلوية النيرة المناسبة لمحلها وما يليق بها ويناسبها من الابتهاج والسرور والفرح والقوة والتجرد من علائق المواد العلية لا بد منها، ولوازم السفل والمركز من الضيق والحصر ولوازم ذلك من الظلمة والغلط والشر وما هنالك من الأرواح السفلية المظلمة الشريرة وأعمالها وآثارها لا بد منها، فهما عالمان علوي وسفلي ومحلان وساكنان تناسبهما مساكنهما وأعمالهما وطبائعهما، وقد خلق كلا من المحلين معموراً بأهليه وساكنيه حكمة بالغة وقدرة قاهرة، وكل من هذه الأرواح لا يليق بها غير ما خلقت له مما يناسبها ويشاكلها قال تعالى: {قُلْ كُلٌ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ} [الإسراء: 84] أى على ما يشاكله ويناسبه ويليق به، كما يقول الناس: (كل إناءٍ بالذى فيه ينضح) ". اهـ

ص126.

فلا بد لكل محل من صفات تلائمه فذلك مقتضى القدرة النافذة بخلق المحال المتضادة ومقتضى الحكمة بإمداد كل محل بالأسباب الملائمة له. ولكل دار ما يلائمها من الأحكام، ولكل جنس ما يلائمه، بل لكل فرد ما يلائمه، بل لكل فرد أحكام تتباين بتباين أحواله، فللمريض، كما تقدم، أحكام كونية وشرعية تلائم حاله، وللصحيح أحكامه، فالأول قد خرج بدنه عن حد الاعتدال بطروء سبب المرض، فناسب ذلك الأخذ بالرخصة تيسيرا، فلكل قدر كوني قدر شرعي يلائمه، فذلك مما تظهر به حكمة الرب، جل وعلا، فخلق الشيء وضده، كما تقدم مرارا، مئنة من كمال قدرته، عز وجل، إذ لا يقدر على خلق المتضادات إلا الرب القادر على إحداث ما شاء من الأعيان والأحوال، وفيه من دليل حكمته الكونية بيان إتقان صنعته فبضدها تتميز الأشياء، ورحمته بمن طرأ عليه المرض أو العذر المسقط للتكليف من جنون أو قعود أو عمى ........ إلخ، فمع عظم ابتلائه باعتبار الحال إلا أن له من الثواب إذا صبر واحتسب فذلك واجب وقته، له منه باعتبار المآل ما يفوق أضعاف المفسدة الطارئة فبها تحصل مصلحة عظمى باقية، إذ ما عندكم ينفد وما عند الله من الثواب باق، فلا نفاد لنعيم أهل الجنة، والصابرون من أشرف سكان تلك الدار فـ: (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ)، فتلك متعلقات قدرته وحكمته الكونية، وأما حكمته الشرعية فتظهر آثارها في تفاوت التكليف فرعا عن تفاوت الأجناس والهيئات والقوى فليس الصحيح كالضعيف، فالأول لا يصلي جالسا إلا في النفل، وله مع ذلك نصف الأجر، والثاني يصلي الفريضة جالسا بل نائما بل مستلقيا يومئ بأركانه بل بعينه إن عجزت أطرافه، وله الأجر كاملا بل له من أجر ما كان يعمل صحيحا قبل طروء العذر المانع، وذلك من فضل الرب الحكيم الشارع، فحكمته في وضع كل شيء في موضعه اللائق شرعا أو كونا قد بلغت الغاية فظهر بها من كماله ما انفرد به عن سائر الموجودات، فهي، كما تقدم، من أخص أوصاف ربوبيته، وتأملها في سائر أحكامه الكونية والشرعية باعث حثيث على إفراده، عز وجل، بالألوهية، كما تقدم مرارا، من التلازم الوثيق بين الربوبية الخالقة والألوهية الشارعة الحاكمة.

يقول ابن القيم رحمه الله:

"فمن أرادت من الأرواح الخبيثة السفلية أن تكون مجاورة للأرواح الطيبة العلوية في مقام الصدق بين الملأ الأعلى فقد أراد ما تأباه حكمة أحكم الحاكمين، ولو أن ملكاً من ملوك الدنيا جعل خاصته وحاشيته سفلة الناس وسقطهم وغرتهم الذين تتناسب أقوالهم وأعمالهم وأخلاقهم فى القبح والرداءة والدناءة لقدح الناس فى ملكه وقالوا: لا يصلح للملك". اهـ

ص126.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير