تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

الخير". اهـ

ص130.

فالمعصية بالترك نسيانا لعدم العلم أو عدم الصبر الذي يذهل صاحبه فينسى التكليف الشرعي، أمر عدمي، فهو قطع لمادة الصلاح عن قلب المكلف في لحظة العصيان، فهو من هذا الوجه عدمي، إذ شاء الرب، جل وعلا، حجب مادة الهداية عن قلبه فذلك مقتضى عدله وحكمته فلم يضع أسباب الصلاح في محل فاسد وإنما أمد كلا بما يليق به، فأمد المحل الصالح بأسباب الصلاح وجودا، وقطع عنه أسباب الفساد عدما، وفي المقابل أمد المحل الفاسد بأسباب الفساد وجودا عقابا له على تلبسه بضد ما خلق له فقد خلق للعبادة شرعا فلما أعرض عنها بمقتضى ما كتب الله، عز وجل، كونا عوقب بإمداده بأسباب الفساد، وقطعت عنه أسباب الصلاح عدما.

يقول ابن أبي العز رحمه الله:

"لا منافاة بين كون العبد محدثا لفعله وكون هذا الإحداث وجب وجوده بمشيئة الله تعالى، كما قال تعالى: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا} {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا}. فقوله: {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} - إثبات للقدر بقوله: فألهمها، وإثبات لفعل العبد بإضافة الفجور والتقوى إلى نفسه، ليعلم أنها هي الفاجرة والمتقية. وقوله بعد ذلك: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا} {وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} - إثبات أيضا لفعل العبد، ونظائر ذلك كثيرة.

وهذه شبهة أخرى من شبه القوم التي فرقتهم، بل مزقتهم كل ممزق، وهي: أنهم قالوا: كيف يستقيم الحكم على قولكم بأن الله يعذب المكلفين على ذنوبهم وهو خلقها فيهم؟ فأين العدل في تعذيبهم على ما هو خالقه وفاعله فيهم؟ وهذا السؤال لم يزل مطروقا في العالم على ألسنة الناس، وكل منهم يتكلم في جوابه بحسب علمه ومعرفته، وعنه تفرقت بهم الطرق: فطائفة أخرجت أفعالهم عن قدرة الله تعالى، وطائفة أنكرت الحكم والتعليل، وسدت باب السؤال. وطائفة أثبتت كسبا لا يعقل! جعلت الثواب والعقاب عليه. وطائفة التزمت لأجله وقوع مقدور بين قادرين، ومفعول بين فاعلين! وطائفة التزمت الجبر، وأن الله يعذبهم على ما لا يقدرون عليه! وهذا السؤال هو الذي أوجب هذا التفرق والاختلاف.

والجواب الصحيح عنه، أن يقال: إن ما يبتلى به العبد من الذنوب الوجودية، وإن كانت خلقا لله تعالى، فهي عقوبة له على ذنوب قبلها، فالذنب يكسب الذنب، ومن عقاب السيئة السيئة بعدها. فالذنوب كالأمراض التي يورث بعضها بعضا يبقى أن يقال: فالكلام في الذنب الأول الجالب لما بعده من الذنوب؟ يقال: هو عقوبة أيضا على عدم فعل ما خلق له وفطر عليه، فإن الله سبحانه خلقه لعبادته وحده لا شريك له، وفطره على محبته، وتألهه والإنابة إليه، كما قال تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا}. فلما لم يفعل ما خلق له وفطر عليه، من محبة الله وعبوديته، والإنابة إليه - عوقب على ذلك بأن زين له الشيطان ما يفعله من الشرك والمعاصي، فإنه صادف قلبا خاليا قابلا للخير والشر، ولو كان فيه الخير الذي يمنع ضده لم يتمكن منه الشر، كما قال تعالى: {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ}. وقال إبليس: {فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} {إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ}. وقال الله عز وجل: {هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ} {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} والإخلاص: خلوص القلب من تأله ما سوى الله تعالى وإرادته ومحبته، فخلص لله، فلم يتمكن منه الشيطان. وأما إذا صادفه فارغا من ذلك، تمكن منه بحسب فراغه، فيكون جعله مذنبا مسيئا في هذه الحال عقوبة له على عدم هذا الإخلاص. وهي محض العدل.

فإن قلت: فذلك العدم من خلقه فيه؟ قيل: هذا سؤال فاسد، فإن العدم كاسمه، لا يفتقر إلى تعلق التكوين والإحداث به، فإن عدم الفعل ليس أمرا وجوديا حتى يضاف إلى الفاعل، بل هو شر محض، والشر ليس إلى الله سبحانه، كما قال صلى الله عليه وسلم في حديث الاستفتاح: «لبيك وسعديك، والخير كله في يديك، والشر ليس إليك» ". اهـ

"شرح الطحاوية"، ص432، 433.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير