"فإن كان إيجابه لجهاد المحارب المبتدئ بالقتال لا ينافي مجادلته فلأن يكون جهاد من لا يبدأ القتال لا ينافي مجادلته أولى وأحرى فإن من كان أبعد عن القتال كانت مجادلته أقل منافاة للقتال ممن يكون أعظم قتالا ................. ومن المعلوم أن القتال إنما شرع للضرورة ولو أن الناس آمنوا بالبرهان والآيات لما احتيج إلى القتال فبيان آيات الإسلام وبراهينه واجب مطلقا وجوبا أصليا.
وأما الجهاد فمشروع للضرورة فكيف يكون هذا مانعا من ذلك.
فإن قيل: الإسلام قد ظهرت أعلامه وآياته فلم يبق حاجة إلى إظهار آياته وإنما يحتاج إلى السيف.
قيل معلوم أن الله وعد بإظهاره على الدين كله ظهور علم وبيان وظهور سيف وسنان فقال تعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ}.
وقد فسر العلماء ظهوره بهذا وهذا ولفظ الظهور يتناولهما فإن ظهور الهدي بالعلم والبيان وظهور الدين باليد والعمل والله تعالى أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله.
ومعلوم أن ظهور الإسلام بالعلم والبيان قبل ظهوره باليد والقتال فإن النبي صلى الله عليه وسلم مكث بمكة ثلاث عشرة سنة يظهر الإسلام بالعلم والبيان والآيات والبراهين فآمنت به المهاجرون والأنصار طوعا واختيارا بغير سيف لما بان لهم من الآيات البينات والبراهين والمعجزات ثم أظهره بالسيف فإذا وجب علينا جهاد الكفار بالسيف ابتداء ودفعا فلأن يجب علينا بيان الإسلام وإعلامه ابتداء ودفعا لمن يطعن فيه بطريق الأولى والأحرى ........................... ومن المعلوم أن السيف لا سيما سيف المسلمين وأهل الكتاب هو تابع للعلم والحجة بل وسيف المشركين هو تابع لآرائهم واعتقادهم والسيف من جنس العمل والعمل أبدا تابع للعلم والرأي.
وحينئذ فبيان دين الإسلام بالعلم وبيان أن ما خالفه ضلال وجهل هو تثبيت لأصل دين الإسلام واجتناب لأصل غيره من الأديان التي يقاتل عليها أهلها ومتى ظهر صحته وفساد غيره كان الناس أحد رجلين:
إما رجل تبين له الحق فاتبعه فهذا هو المقصود الأعظم من إرسال الرسل.
وإما رجل لم يتبعه فهذا قامت عليه الحجة إما لكونه لم ينظر في أعلام الإسلام أو نظر وعلم فاتبع هواه أو قصر.
وإذا قامت عليه الحجة كان أرضى لله ولرسوله وأنصر لسيف الإسلام وأذل لسيف الكفار وإذا قدر أن فيهم من يعجز عن فهم الحجة فهذا إذا لم يكن معذورا مع عدم قيامها فهو مع قيامها أولى أن لا يعذر وإن كان معذورا مع قيامها فهو مع عدمها أعذر فعلى التقديرين قيام الحجة أنصر وأعذر وقد قال تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً}.
وقال تعالى: {رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ}.
وقال تعالى: {فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْراً عُذْراً أَوْ نُذْراً}.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما أحد أحب إليه العذر من الله من أجل ذلك أرسل الرسل مبشرين ومنذرين) ". اهـ
بتصرف واسع من "الجواب الصحيح"، (1/ 146_151)
فيعمل بجهاد الطلب في زمان القوة، ويعمل بجهاد الدفع إذا داهم العدو محلة المسلمين أو حاصرهم فليس لديهم مؤنة بدئه بالقتال، بل ربما ليس لديهم مؤنة رده!، كما هو الحال في زماننا، بل قد يرد التحريم عليه إن غلب على الظن فناء الجماعة المسلمة إذا أقامته، أو استعدائها من لا قبل للمسلمين برده من الهمج الذين ناصبوا الرسالة الخاتمة العداء وما أكثرهم في زماننا، وهم بمقتضى سنة التدافع الكونية ماضون في نصب القتال للمسلمين وإن كف المسلمون عنهم، فلن يعدم أساطينهم ذريعة يتعللون بها من حرب لإرهاب أو دعم لاستقرار الشرق الأوسط الذي لا يهدده إلا الأصوليون! ...... إلخ، ولكن ذلك لا يعني المبادرة بإعطائهم الحجة ليهاجموا أرض المسلمين دون أن يجدوا منكرا عليهم من عقلاء الأمم، إذ الحجة جاهزة وقد تطوعنا ابتداء بمنحهم إياها فإحداث النكاية المعتبرة فيهم كما في أمصار المسلمين المحتلة كبلاد الأفغان والعراق وبيت المقدس وأكنافه شيء فتلك أراض مسلمة يلزم أهل الإسلام تحريرها بكافة صور الجهاد المشروعة، وغزوهم في أرضهم لا سيما إن دخلها المسلمون بعقد أمان شيء آخر، وذلك أمر من الدقة بمكان فتكفي مجرد الإشارة إليه إذ لا يستقل بتفصيله إلا آحاد الراسخين في العلم وإنما يكفينا معشر المسلمين أن نعرف أصوله الجامعة لئلا يقع لنا اللبس في تلك المسألة الشائكة التي انقسم الناس فيها إلى مُفَرِّط جاف يرى كل صور الأمر والنهي والنصرة للمستضعفين خروجا على ولي الأمر! وذلك من برودة الإيمان وانطفاء جذوة الولاء والبراء في القلب بمكان! وحال الغلاة في طاعة من علوهم من أولي الأمر ولو خالفوا شرع الرب، جل وعلا، خير شاهد على ذلك، لا سيما في المؤسسات العسكرية بل وسائر الأجهزة التنفيذية التي ينزل فيها الرئيس منزلة المعصوم في قوله وفعله نفاقا ومداهنة ولو بإغضاب الرب، جل وعل، طلبا لمنفعة دنيوية عاجلة، فحد صاحبه ما أثر عن أهل الشام من غلوهم في ولاتهم حتى اعتقدوا فيمه نوع عصمة فالله عز وجل يغفر لهم ذنوبهم تحقيقا لا تعليقا كبقية المسلمين ولذلك قيل: طاعة شامية، فهي كناية عهدية عن أولئك الذين غلو في محبة ولاتهم وأخطر ما فيه أن يصدر عن أناس يظن فيهم الدين والإمامة سواء أكانوا متأولين أم مغرضين مداهنين فالفتنة بهم في كلا الحالين عظيمة.
ومُفْرِط غال يفسد بأفعاله أكثر مما يصلح فلا يعتذر له إلا بصلاح نيته وإن توجه إليه اللوم لتقصيره في طلب العلم الذي يصحح العمل، فلا تكفي صحة المقصد للحكم بصحة العمل فكم من مريد للخير لم يصبه لحظ نفس قد شاب نيته فلم يفطن له، أو لنقص في علمه ولد فسادا في عمله، فالتلازم بين العلم والعمل صحة أو فسادا تلازم وثيق كما قرر المحققون من أهل العلم.
والله أعلى وأعلم.