تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

[عن العدل والفضل]

ـ[مهاجر]ــــــــ[16 - 12 - 2009, 01:52 م]ـ

يقول شيخ الإسلام رحمه الله:

"شريعة العدل أحق بأن تضاف إلى الله من شريعة الفضل فإن الأمر بالإحسان والعفو يحسنه كل أحد وأما معرفة العدل والحكم بين الناس به فلا يقدر عليه إلا آحاد الناس ولهذا يوجد الذي يصلح بين الناس بالإحسان خلق كثير وأما الذي يحسن أن يفصل بينهم بالعدل فناس قليل فكيف يقال إن الذي يأمر بشرع الفضل هو الله دون الذي يأمر بشرع العدل.

والله تعالى أرسل الرسل وأنزل الكتاب ليقوم الناس بالقسط كما قال تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَلِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} ". اهـ

"الجواب الصحيح"، (3/ 65).

فبالعدل قامت السماوات والأرض، وإتقان صنعتها ودقة أحكامها الكونية المطردة الجارية وفق سنن محكمة أجرى بها الرب، جل وعلا، الأحداث الكونية، كل ذلك مئنة من دقة ذلك الميزان، فلا يحسن استخدامه إلا آحاد، كان الرسل عليهم السلام مقدميهم فهم الذين بعثوا به، ليقيموا أمور الأديان والأبدان، فإنها لا تستقيم إلا بجريان أحكامها على وفاقه. فلا يتصور كمال حال: دينا أو دنيا، علما أو عملا، في عصر أو مصر أو جماعة أو حتى فرد لا تكون الولاية العظمى فيه للنبوة، فإذا عزلت وضيق عليها كان الفساد، وبقدر التضييق عليها يكون عظم الفساد العام في الجماعات أو الخاص في الأفراد.

فالعدل أخص وأدق من الفضل، فميزانه أدق تبعا لدقته، فالفضل يحسنه كثير من الناس، إذ لا بد فيه من نوع مسامحة في الحقوق، فيقع فيه التعدي من هذا الوجه، ولا يحدث الفصل الدقيق بين حقوق المتنازعين بل ينزل كل للآخر عن جزء من حقه إذ لا يحدث التراضي إلا بذلك، وهذا أمر مشاهد في كل مجالس الصلح، بل ربما وقع فيه نوع تعد غير جائز شرعا بإهدار حق واجب لا يقبل المسامحة، كحد قذف على خلاف هل هو من حق الله عز وجل أو من حق المقذوف فيحق له التنازل عنه أو قبول التعويض عما لحقه منه، أو دية تنتقص بسيف الحياء، بل ربما بسيف التهديد!، والشاهد أن مجالس الفضل لا تنفك عن ذلك التعدي سواء أكان مشروعا أم غير مشروع.

بخلاف مجالس العدل، فإن من يحكم فيها قلة، كما تقدم، إذ لا بد فيها من تمام الفصل بين أصحاب الحقوق أو المتنازعين، ولذلك كانت علومها أدق، فلا يجيدها إلا الحذاق.

فإذا نظرت في قراء كتب الرقائق وجدتهم أكثر من قراء كتب الشرائع من أصول وفقه ونحوه، إذ الأولى أيسر على النفس، فهي تلتذ بها لما تجده من نفعها العالجل وأثرها الآني، فهي تفيد القلب رقة والنفس لطافة هي مراد كل قارئ بخلاف علوم الشرائع، فإنها صعبة المراس تستثقلها النفس، ويسرع النعاس إلى أجفان القارئ في كتبها أو المستمع لشروحها، مع ما تجده من نوع قسوة من كثرة مطالعتها دون تلطيف لمادتها بموعظة ترقق القلب، وهي مع ذلك عظيمة النفع بل ربما فاقت الرقائق نفعا، إذ الحلال والحرام: أنفع العلوم فإن الناس لا يستفتون الوعاظ إذا نزلت بهم نازلة، فهم أهل الفضل الأعم، وإنما يستفتون أهل الفقه، إذ هم أهل العدل الأخص، والخاص مقدم على العام حال الترجيح إن لم يمكن الجمع، فإن وجد من يجمع بينهما، وقليل ما هم، فلا حاجة للترجيح، إذ المحل قد اتسع لكليهما، وذلك فضل الله، عز وجل، يؤتيه من يشاء.

وانظر إلى علم كعلم المواريث على سبيل المثال فإنه علم يكاد يندثر لقلة العناية به فرعا عن وعورة مسالكه، فهو من الدقة بمكان، إذ هو من أعظم صور العدل الإلهي في قسمة الحقوق بين أصحابها على حد قد بلغ الغاية من الإحكام، فقلة من يعلمه: علم الفتوى لا علم الثقافة الشرعية العامة، فرع عن دقة ميزانه، فعدد من يجيد استعماله في زنة الحقوق قليل تبعا لذلك.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير