تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

يحسن الحكم على أولئك المفتونين في دينهم بحكم يماثل الحكم على من عنده سعة، ولو نسبية، فيغتفر في حق الأول من التقصير ما لا يغتفر في حق الثاني، وإن كانت عين الشرع واحدة، فالأحكام الشرعية لا تتبدل وإنما يلتمس العذر في إجرائها بالنظر في القرائن والملابسات فلكل مصر ظروفه، ولكل نازلة حكم يلائمها، والأمر بالنسبة لنا في تقييم الحركات الإسلامية بشتى أطيافها لا يعدو أن يكون من قبيل التفكه في المجالس!، فلم نر في مجالسنا الدافئة الآمنة!، ما رأوه، وليس الخبر ولو صحيحا كالمعاينة، فمع المعاين من قرائن الحال ما ليس مع السامع عن بعد، ولعل الله، عز وجل، أن يبصرنا بأحكام ديننا فتكون عين الشرع حاضرة، وحال إخواننا فتكون عين القدر حاضرة، فلا تكون أحكامنا ارتجالية، بل مؤيدة بالشرع والقدر معا، ولعله، جل وعلا، أن يكف بأسنا عن إخواننا فتسلم أعراضهم من ألسنتنا وإن لم يصير ذلك ما أخطئوا فيه صوابا، فالأحكام الشرعية، كما تقدم، لا تتبدل، وإنما ينظر بعين القدر في تأخير حكم أو تعجيله كما قد وقع من علي، رضي الله عنه، في فتنة مقتل عثمان، رضي الله عنه، فكان الصواب ما رآه من تأخير القصاص من قتلة الخليفة الشهيد حتى تسكن الفتنة وتهدأ النفوس فالقتلة أصحاب عصبيات تغضب لهم فقتلهم على الفور ذريعة إلى وقوع فتنة عامة.

وقراءة السيرة في هذا الموضع مما يفيد الناظر أو الدارس فقها عظيما وحقيقا لا وهميا بالواقع فلا يتشدد حيث تحسن المرونة، ولا يقدم تنازلا عن ثابت لا يسوغ التنازل عنه، بالتوسع في استعمال مصطلح فقه الواقع الذي يقبل كأي مصطلح في زماننا: المط، فتقحم في دائرته تنازلات عظيمة تنال من الأصول، بحجة تحقق المصلحة الشرعية في ذلك، والمصلحة الشرعية لا تكون أبدا بمخالفة الأصول الشرعية، وإنما تكون بإبداء قدر معين من المرونة في الفروع التي يسوغ الخلاف فيها، فتتعدد وجهات النظر فيها اعتبارا أو إلغاء، فقد يرى أهل بلد فيها من المصالح ما لا يراه غيرهم فتكون في حقهم مصلحة، وفي حق غيرهم مفسدة، فذلك التفاوت لا يتصور بداهة في الأصول بل وفي كل نازلة ورد فيها نص صحيح صريح ولو كانت فرعا.

والناظر في سيرة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم يرى عجبا من حال ذلك الرجل العظيم المؤيد بالوحي فيرى كيف أحسن توظيف كل الطاقات الإنسانية والمادية لبلوغ الغاية السامية بظهور الملة الخاتمة على أعدائها وكيف امتلك القلوب وعرف مفاتيح النفوس سواء أكانت من أوليائه أم من أعدائه، فأحبه الولي وعظمه، وهابه العدو وقدره فلم يخف إعجابا عظيما بحنكته وحسن سياسته، فهي سياسة شرعية خالصة لا تعرف الرياء ولا تتشح بأثواب الزور من القول أو الفعل.

فهو صلى الله عليه وعلى آله وسلم خبير بمعادن الرجال، خبير بتأليف القلوب وسياسة الشعوب، وانظر إلى طريقته العجيبة في تأليف واستمالة قلب قائد عظيم كخالد، رضي الله عنه، فيسأل عنه أخاه الوليد بن الوليد، رضي الله عنه، سؤالا خاصا، ويثني على عقله، فيقول: ومثل خالد يجهل الإسلام؟!، فلا يتصور أن تفوت حقيقةُ الإسلام عقليةً فذة كعقلية خالد، رضي الله عنه، ثم يعده بتولي أعلى المناصب القيادية في دولة الإسلام إن أسلم لا مداهنة وإعطاء للدنية وإنما استعمالا لتلك الكفاءة القتالية النادرة في نصرة الديانة والذب عنها، فتلك الغاية الاستراتيجية العظمى للسياسة النبوية الحكيمة، ثم هو يستقبله بوجه طلق وكلمات ثناء صادقة لا تصنع فيها ولا تزلف، فـ: الحمد لله الذي هداك قد كنت أرى لك عقلا رجوت ألا يسلمك إلا إلى خير، ثم يوليه بعد ذلك أرفع المناصب العسكرية مع تأخر إسلامه، فلم يعدل به أحدا في أمر حزبه، كما أثر عن خالد، رضي الله عنه، ويوليه المسلمون في مؤتة بلا عهد سابق فيظهر من الكفاءة ما قد علم، فيترك ثابت بن أرقم، رضي الله عنه، الراية له وهو بدري أحق منه بالقيادة باعتبار السبق والمكانة ولكنه يعرف لمثل خالد، رضي الله عنه، قدره، ويوليه الصديق ثم يعزله عمر خوفا من افتتان الناس به، فيسمع ويطيع، ثم تأبى همته الملوكية إلا أن ينزل بالرومان هزائم في قنسرين أجرت على لسان عمر، رضي الله عنه، كلمته المعروفة: أمر خالد نفسه يرحم الله أبا بكر هو كان أعلم بالرجال

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير