ذَرِيني أنلْ ما لا يُنالُ من العُلا ... فصعبُ العُلا في الصَّعَبِ والسَّهلُ في السَّهلِ
تُرِيدينَ إدراكَ المعالي رخيصةً ... ولابُدَّ دونَ الشَّهْدِ من إبَرِ النَّحْلِ
مَن أرادَ الجنَّةَ سلعةَ اللهِ الغاليةَ لم يَلتفتْ إلى لؤمِ لائمٍ، ولا عَذلِ عَاذل، ٍ ومضى يَكدحُ في السعي لها
قال تعالى: {وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا} [سُورَةُ الإِسْرَاءِ: 19].
وقال -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ خَافَ أَدْلَجَ، وَمَنْ أَدْلَجَ بَلَغَ الْمَنْزِلَ، أَلاَ إِنَّ سِلْعَةَ اللهِ غَالِيَةٌ، أَلاَ إِنَّ سِلْعَةَ اللهِ
الجَنَّةُ".رواه الترمذيُّ وأحمدُ.
كبيرُ الهِمَّةِ لا يَنقُضُ عَزْمَهُ
قال تعالى: {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} [سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ:159]
قال جعفرٌ الخُلْديُّ البغداديُّ: "ما عقدتُ لله على نفسي عقدًا، فنَكَثْتُهُ".
يا كبيرَ الهِمَّةِ: لا يَضُرُّك التفردُ، فإنَّ طُرُقَ العُلا قَلِيلةُ الإينَاسِ
فعالي الهمَّةِ تَرَقَّى في مدارجِ الكمالِ بحيثُ صارَ لا يَأبَهُ بقلةِ السالكينَ، ووحشةِ الطريقِ لأنَّه يُحَصِّلُ مع كلِّ مرتبةٍ يَرتَقِي
إليها من الأُنْسِ باللهِ ما يَزيلُ هذِهِ الوحشةَ، وإلا انقطعَ به السَّبِيلُ.
عالي الهِمَّةِ لا يَرضى بالدُّونِ ولا يُرْضِيهِ إلا معاليَ الأُمُورِ
إنَّ عاليَ الهمةِ يَعلمُ أنَّه إذا لم يَزِدْ شيئًا في الدنيا فسوف يكونُ زائدًا عليها، ومِنْ ثَمَّ فهو لا يَرضى بأنْ يحتلَّ هامشَ
الحياةِ، بل لابُّد أنْ يكونَ في صُلبِها ومَتْنِها عُضوًا مُؤثِرًا.
إذا ما مضى يومٌ ولم أصْطَنِعْ يدا * ولم أقتبِسْ علما فما هو من عُمري
إنَّ كبيرَ الهمةِ نَوعٌ من البشرِ تتحدى همتُهُ ما يَراهُ مُستَحِيلا، ويُنْجِزُ ما يَنْوءُ به العُصْبَةُ أُولُو القُوةِ، ويَقْتَحِمُ الصِّعَابَ
والأهوالَ لا يَلْوي على شيء.
له هِمَمٌ لا مُنْتَهى لكبارها ... وهمتُهُ الصُّغرى أجلُّ من الدهرِ
فعالي الهمةِ لا يَرضى بما دُونَ الجَنَّةِ.
إنَّ كبيرَ الهمةِ لا يَعْتَدُّ بما له فَناءٌ، ولا يَرضى بحياةٍ مُسْتَعَارَةٍ، ولا بقُنيةٍ مُسْتَرَدةٍ، بل هَمُّهُ قُنيةٍ مُؤبَدَةٍ، وحياةٍ مُخَلَّدةٍ، فهو
لا يزالُ يُحَلِّقُ في سماءِ المعالي، و لا يَنتهي تَحْلِيقُهُ دُونَ عِلِّيينَ، فهي غايتُهُ العُظْمَى، وهمُّهُ الأسمى.
عالي الهمَّةِ شريفُ النّفسِ يَعرف قدرَ نفسِهِ، في غَيرِ كِبْرٍ، ولا عُجْبٍ، ولا غُرُورٍ، وإذا عرفَ المرءُ قَدْرَ نفسِهِ، فصانَها
عن الرذائلِ، وحفظَها من أنْ تُهَانَ، ونزَّهَها عن دَنَايا الأُمُورِ وسفاسِفِها في السِّرِ والعلنِ، وجنَّبَها مواطنَ الذُّلِ بأنْ يُحَمِّلَها
ما لا تَطيقُ أو يَضعَها فيما لا يَليقُ بِقدرِها، فتبقى نفسُهُ في حِصْنٍ حَصِينٍ، وعِزٍّ مَنِيعٍ لا تُعْطَى الدَّنِيَّةَ، و لا تَرضى
بالنَّقصِ، ولا تَقْنعُ بالدُّونِ.
إنَّ سُقُوطَ الهممِ وخَسَاسَتَها حَلِيفُ الهَوانِ، وقَرِينُ الذُّلِ والصَّغَارِ، وهو أصلُ الأمراضِ التي تَفَشَّتْ في أُمَّتِنَا، فأَورَثَتْها
قَحْطَا في الرِّجالِ، وجَفَافَا في القرائحِ، وتقليدًا أعمى، وتَوَاكُلا وكَسَلا، واستسلاما لما يُسَمَّى الأمرَ الواقعَ.
كُلُّ ذُلٍّ يُصيبُ الإنسانَ من غيرِهِ، وينالُهُ من ظاهرِهِ: قريبٌ شِفَاؤُهُ، ويَسيرٌ إزالتُهُ، فإذا نَبعَ الذُّلُّ من النفسِ، وانْبَثَقَ من
القلبِ، فهو الدَّاءُ الدَّويُّ، والموتُ الخَفِيُّ.
قال الفاروقُ عمرُ -رضي الله عنه-: "لا تُصغرنَّ هِمتَكَ، فإنّي لم أرَ اقعدَ بالرجلِ من سُقُوطِ همتِهِ".
وقد قيل: المرءُ حيثُ يجعلُ نفسَهَ، إنْ رفعَهَا ارتفعتْ، وإنْ قَصَرَ بها اتْضَعَتْ.
قال ابنُ الجوزيِّ -رحمه الله-: "وقد عرفتُ بالدليلِ أنَّ الهمَّةَ مولودةٌ مع الآدمي، وإنَّما تَقْصُرُ بعضُ الهممِ في بعضِ
الأوقاتِ، فإذا حُثَّتْ ثَارتْ، ومتى رأيتَ في نفسِكَ عجزا فَسَلِ المُنْعِمَ، أو كسلا فالجأْ إلى المُوَفِّقِ، فلن تنالَ خيرا إلا
بطاعتِه، ولن يَفُوتَكَ خيرٌ إلا بمعصيتِهِ".
وقال أيضا -رحمه الله- في (صيد خاطره): "قالَ الكلبُ للأسدِ يوما: يا سيِّدَ السباعِ غَيِّرْ اسمي فإنَّه قبيحٌ، فقال له: أنتَ
خائنٌ لا يَصلحُ لك غيرُ هذا الاسمِ، قال: جَرِّبْني, فأعطاه قطعةَ لحمٍ، وقال له: احفظْ هذِهِ إلى الغَدِ وأنا أُغَيِّرُ اسمَكَ؛ أخذَ
الكلبُ قِطْعةَ اللحمِ، وبعد زمنٍ جعلَ الكلبُ يَنظرُ إلى اللحمِ ويصبرُ، فلمَّا غلبتْهُ نفسُهُ، قال: وأيُّ شيءٍ في اسمي، وما
كلبٌ إلا اسمٌ حسنٌ، وأكلَ اللحمَ.
يقول ابنُ الجو زىِّ: "وهكذا خَسيسُ الهمةِ القنوعُ بأقلِ المنازلِ، المختَّارُ لعاجلِ الهوى على آجلِ الفضائلِ، فاللهَ اللهَ في
حريقِ الهوى إذا ثارَ فانظرْ كيفَ تُطْفِئُهُ".
¥